الأنوثة الموءودة (جناية النسوية على الفطرة الأنثوية)

الأنوثة الموءودة (جناية النسوية على الفطرة الأنثوية)

بقلم: د. أحمد عز الغندور

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

بينما أطيف بأزقة إحدى مواقع التواصل الاجتماعي إذا أنا بنسوة في مقطع مصور يشكين اضطهاد المجتمع لهن والتقليل من حظوظهن وسلبهن أصغر حقوقهن، فجال في خاطري فورا ما أعلم من نغمة المظلومية الغربية المعاصرة للمرأة وحقها في المساواة بالذكر، وظننت أن تلك الاستغاثات في المقطع نابعة من رغبة في التوظيف بنفس أجر الرجال أو  في نفس المناصب، لكني دهشت من أن أولئك الإناث يطلبن -بصورة ملحة- أن يتركهن المجتمع يعملن في بيوتهن، ويخدمن أزواجهن، ويربين أولادهن! يحتججن على أضرابهن من النساء "المتحررات" في زعمهن من اللاتي قدن حربا شعواء في سبيل إفساح مجال لهن في سوق العمل المضني والوظائف غير الملائمة لفطرة المرأة، ويرينهن قد أجلبن عليهن وبالا وشيكا بهذا الانغماس في محرقة الوظائف!

علمت بعدها أن هذه النداءات الخافتة في خضم بحر النسوية الهادر هي في الواقع اتجاهٌ له مريداته وراعياته، أصواتهنّ خفيضة نعم لكنهن كثيرات لم يفسح لهن المجتمع الغربي الراغب في تسليع المرأة مجالا لتخترق أصواتهن سجف "آلة التعمية الغربية" المهيمنة، وعلمت أن اسم هذا الاتجاه "الزوجات التقليديات"! نسوة غربيات غير مسلمات، قاسَين من أتون النسوية اللافح واختبرن لأواءها، فتجاسرن على المطالبة بالعودة إلى الأصل! العودة إلى ما كان قبل حركة النسوية المعاصرة! طالبن فقط أن تختار المرأة حياتها، بعد أن رأين أن النسوية الحديثة قد وأدت أنوثة المرأة، وجردتها من هويتها المباينة فطرةً لهوية الذكور، فأضحى منتهى أملها أن تكون زوجة وراعية منزل، بدون أن يحكم عليها بالسلبية والخنوع للرجل! تطالب فقط بحقها في الاختيار دون تشنيع ولا تدسية.

نعم لقد انقلبت الموازين، وأصبح قرار المرأة في بيتها -في هذا العصر- يتنزل منزلة هزيمة المعركة، وينظر له كأنه رفع الرايات البيضاء أمام الرجل! وتحولت الحياة التي خلقها ربنا سبحانه وتعالى، لا تقوم إلا بالجنسين وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى [النجم: 45]، إلى حرب بينهما، وتسابق محموم نحو "تذكير" الأنثى، من حيث تراد "النسوية"! بل لم يشهد عصر من العصور الغابرة جناية على المرأة وتسليعا لها وتجريدا لها من إنسانيتها -مثلما شهد هذا العصر الذي نعيشه!

فهل انتصفت النسوية للأنوثة أم وأدتها؟! وهل وجدت المرأة الراغبة في التحرر ضالتها في النسوية؟

لطالما شعرت بالشفقة لمن يروم إجابات الأسئلة الوجودية والاستفسارات التي تعنّ للنفس بشأن النهج الأصلح لبني آدم -في غير الوحي، أيتوقع أن يجد إجابات عن كيفية عمل جهاز أو صيانته لدى غير صانعه؟! وهذا يسلم به كل عاقل، وينزلون عليه فيما يرونه من مصنوعات وآلات، يكلون العلم به إلى صانعه، لا يتعجبون لذلك ولا يمارون فيه، مع كونهم يعلمون كيف صنع، ومما صنع، بل رأوا عملية تصنيعه! لكن في الإنسان والمنهج الأمثل له -الأمر خلاف ذلك!

والنسوية من حيث كونها حركة تزعم "استرداد" مكانة المرأة والانتصاف لها، وتحدد طريقتها المثلى، كل ذلك في غير الوحي! كأن الأنثى من صنع البشر، فهم المكلفون بخلق هذا الإطار لها ابتكارًا وتوضيحًا! وكأن النهج السماوي -الذي أنزله خالق الإنسان وارتضاه له، بل جعله هو المصلح له فقط دون غيره- قد عجز عن ذلك، وقصر في حق المرأة!

ولفهم كيف جنت النسوية على الأنوثة، يلزم نوع تحليل لنشأتها وتطورها، كما يلي:

أصل وتطور النسوية الحديثة وأفكارها:

تمتد جذور النسوية المعاصرة إلى الحركة النسوية الأوسع التي نشأت في القرن التاسع عشر كرد فعل على عدم "المساواة" بين الجنسين، وخاصة في مجالات حق التصويت والتعليم وحقوق العمال. لقد ركزت الموجة الأولى من النسوية -أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين- على إزالة الفوارق القانونية https://www.britannica.com/topic/feminism (1) https://www.gale.com/primary-sources/womens-studies/collections/second-wave-feminism (2)، وكان من أبرز شخصياتها سوزان بي أنتوني وإليزابيث كادي ستانتون، اللتان ناضلتا من أجل حق المرأة في التصويت. وقد بلغت هذه الحركة ذروتها بـ"انتصارات" مهمة في نظر أصحابها، مثل منح النساء حق التصويت في الولايات المتحدة عام 1920  Fairchild, K. Feminism is Now: Fighting Modern Misogyny and the Myth of the Post-Feminist Era. Sex Roles 73, 453–455 (2015). https://doi.org/10.1007/s11199-015-0524-7. (3).

لم تكتف النسوية الحديثة بذلك، بل بدأت الموجة الثانية في الستينيات فوسعت تركيزها لتشمل قضايا الحقوق الجنسية وحقوق الإنجاب والمساواة في مكان العمل، متأثرةً بحركة الحقوق المدنية حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية (1865-1896) هدفت إلى القضاء على التمييز العنصري ضد الأمريكيين من أصل أفريقي، وتحسين فرصهم التعليمية والتوظيفية، وتأسيس قوتهم الانتخابية، بعد إلغاء العبودية في الولايات المتحدة. (4). سلطت بيتي فريدان في كتابها "الغموض الأنثوي" الصادر عام 1963 الضوء على الاستياء الذي شعرت به نسوة رأين أنهن محصورات في الأدوار المنزلية، مما أثار نقاشا أوسع حول أدوار الجنسينFriedan, B. (1963). The Feminine Mystique. Dell Publishing Company (5)؛ فقالت: إن "المشكلة التي لا تحمل اسما" كانت عدم السعادة المنتشرة بين النساء برغم تحقيق الراحة المادية Bachmann, I., Harp, D., Loke, J. (2018). Through a Feminist Kaleidoscope: Critiquing Media, Power, and Gender Inequalities. In: Harp, D., Loke, J., Bachmann, I. (eds) Feminist Approaches to Media Theory and Research. Comparative Feminist Studies. Palgrave Macmillan, Cham. https://doi.org/10.1007/978-3-319-90838-0_1 (6)​. سعت هذه الموجة الثانية إلى تفكيك البنى القانونية والثقافية التي كانت تحتفظ بـ"تبعية" النساء. وأكدت غلوريا ستاينم -رائدة هذه الموجة- على أن "النساء لن يكن متساويات مع الرجال خارج المنزل حتى يصبح الرجال متساوين مع المرأة داخله!"  السابق (7).

أما تطور النسوية في الموجة الثالثة في التسعينيات فقد أدخل أفكارا جديدة، بحيث أصبح مفهوم كيمبرلي كرينشو للتقاطع (intersectionality) -الذي ظهر لأول مرة عام 1989 Crenshaw, K. (1991). Mapping the Margins: Intersectionality, Identity Politics, and Violence Against Women of Color (8)- محوريا في الفكر النسوي الحديث، فجادلت أن النسوية بحاجة إلى النظر في "كيفية تداخل جوانب الهوية المختلفة مثل العرق والطبقة والتوجه الجنسي في توليد نوع من الكبت والتمييز ضد النساء"​ Fairchild, K. Feminism is Now: Fighting Modern Misogyny and the Myth of the Post-Feminist Era. Sex Roles 73, 453–455 (2015). https://doi.org/10.1007/s11199-015-0524-7 (9)، ومن ثم لزوم اختراق هذه الجوانب وتسييلها. أكدت الموجة الثالثة أيضا ضرورة مفهوم "الاختيار"، ويقصد به حرية تامة طالبت بها النسويات للمرأة في تحديد تجاربهن الشخصية واتخاذ قراراتهن، سواء فيما يتعلق بالمهنة أو الأمومة، أو الحياة والهوية الجنسية. كما سعت النسوية في هذه الموجة إلى إعادة تعريف الأنوثة وتحدي المعايير التي وضعتها الحركات السابقة  Snyder-Hall, R. C. (2010). Third-Wave Feminism and the Defense of “Choice.” Perspectives on Politics, 8(1), 255–261. http://www.jstor.org/stable/25698533 (10).

أما النسوية الحالية، التي يشار إليها بالموجة الرابعة، فقد بدأت حوالي عام 2012، متأثرة بنشاط وسائل التواصل الاجتماعي https://thehumanist.com/commentary/a-brief-look-at-the-four-waves-of-feminism (11). تركز هذه المرحلة على قضايا مثل التحرش الجنسي والحرية الجسدية والحركة الأوسع للعدالة الاجتماعية، متضمنة في ذلك كفالة حرية الشذوذ والتحول الجنسي، والاعتراف بتنوع أطياف الهوية الجنسية https://www.vox.com/2018/3/20/16955588/feminism-waves-explained-first-second-third-fourth (12).

لقد انحرفت النسوية الحديثة بعيدًا عن مسار المعارك القانونية الصرفة، إلى المطالبة بالمساواة الثقافية والاجتماعية، والجسدية والجِنسيّة، بل بمزية التحرر المطلق للنساء في ذلك كله. وتنتقد الكاتبة النسوية روكسان غاي هذا التطوّر بقولها: "يبدو أن النسوية السيّئة هي الطريقةُ الوحيدةُ التي يمكنني من خلالها تبني نفسي كامرأة نسوية وأن أكون نفسي"  The Contradiction That Rules Feminism. (n.d.). Hoover Institution. Retrieved October 6, 2024, from https://www.hoover.org/research/contradiction-rules-feminism (13)!

ويمكن من العرض السابق تلخيص تطور مراحل النسوية في أطوارها الأربعة في هذه القيم:

1- التصويت والمساواة القانونية.

2- المساواة الشاملة والتحرر والحقوق الجنسية.

3- التقاطع والاشتراك.

4- السيولة الجنسية.
 

وأد الأنوثة من خلال النسوية: مقاربة نقدية

والمتأمّل في طريقة نشأة هذه الحركة يعلم أنها حركة غير متجذرة في الطبيعة البشرية، بل دخيلة عليها كرد فعل تجاه نوع من الظلم في ظرفين محدودين من الزمان والمكان، وبتأثير توجهات مقيدة بقيد بيئتها، وأصبح ما نشأ في بقعة معينة تحت وطأة مؤثرات مخصوصة معيارا يجب أن تعامل به كل النساء وتتحاكم إليه، مَثلها كعشبة يصفها متطببٌ لكل الأعراض التي تقابله! وهي مع ذلك تضر لا تنفع! فهل المرأة مظلومة في شريعة الخالق، أم بسبب أفعال المخلوقين، حتى يكون الحل في محاولة إيجاد منهجية وضعية تنتصف للمرأة، عوضا عن الرجوع إلى المنهج الرباني؟

لقد جاء الإسلام بتكريم المرأة ورفع منزلتها، وصانها ووفاها حقوقها على الوجه الأكمل والأحكم، في واقع كانت النساء فيه مهانات مستذلات، ينظر إليهن نظر الممتلكات والسلع، ويتصرف فيهن بأي وجه أريد. فكانت لا ترِث ولا يُرى لها في الميراث حق، بل كانت هي غرضا يورث! إذا مات الرجل وله زوجة وأولاد من غيرها كان ولده الأكبر أحق بزوجة أبيه، إرثا كبقية التركة، إن شاء أمسكها، أو يحبسها حتى تفتدي بصداقها، أو تموت فيذهب بمالها تفسير الطبري: 6/523، عن ابن عباس. (14)!

ولم يكن للمرأة على زوجها أي حق، ولا للطلاق عدد محدود، ولا لتعدد الزوجات! وكانت العدة للمرأة إذا مات زوجها سنة كاملة، وكانت المرأة تحد على زوجها شر حداد وأقبحه، فتلبس شر ملابسها، وتسكن شر الغرف، وتترك الزينة والتطيب والطهارة، فلا تمس ماء ولا تقلم ظفرا ولا تزيل شعرا ولا تبدو للناس في مجتمعهم. بل كانت البنت من صغرها رمز عار وفضيحة، تدفن خشية الهوان وتدس في التراب دون إعلان. ولم يكن هذا كله خلافا للمجتمعات من غير العرب، بل كان انعكاسا لما يقع في تلك العصور وما قبلها من ممارسات تجاه المرأة، هي في كثير من الأحيان أشد مما كان لدى العرب!

فكانت النساء في الهند القديمة يتعرضن للاضطهاد الشديد بعد ترملهن، ويفرض عليهن ممارسة "الساتي" (حرق نفسها مع زوجها المتوفى)، وهي ممارسة موثقة في قوانين المانو (Manusmriti) Dutt, M. N. (1908). The Laws of Manu. Forgotten Books (15)! وكان الزواج إجباريّا على الفتيات لا يحق لهن أن يبدين آراءهن فيه Kane, P. V. (1973). History of Dharmaśāstra. Bhandarkar Oriental Research Institute (16). وفي الصين القديمة تحت ظل الكونفوشيوسية كانت عقوبة الخيانة الزوجية مغلطة على المرأة فقط لا الرجل Ebrey, P. B. (1993). The inner quarters: Marriage and the lives of Chinese women in the Sung period. University of California Press. (17). وفي كوريا القديمة في عهد سلالة جوسون فرضت الكونفوشيوسية قيودًا شديدة على المرأة عرفت بـ"العزل الاجتماعي"، فتمنع من التواصل مع عائلتها الأصلية أو المشاركة في المجتمع بصورة مستقلة، وتفقد هويتها الفردية، وترزح تحت وطأة "القوانين الثلاثة"، وإذا صارت أرملة منعت من التصرف في مالها أو ممتلكاتها إلا بإذن ابنهاDeuchler, M. (1992). The Confucian Transformation of Korea: A Study of Society and Ideology. Harvard University Press (18)! وفي اليابان القديمة كان يُنظر إلى النساء النبيلات على أنهن أدوات لتكوين التحالفات السياسية عبر الزواجLu, W. (2008). True Confucians, bold Christians: Korean missionary experience. BRILL (19) McCullough, H. (1999). Classical Japanese prose: An anthology. Stanford University Press (20)!

لم تنأ النسوية الحديثة عما عدته إهانة للمرأة فيما سبق، بل جرتها لمعارك أعادتها إلى حيز التسليع وسلب الأنوثة، من الطريق المقابل! أجل؛ سلبت النسوية أنوثة المرأة دركة دركة!

فنادت النسوية في طورها الأول بحق المرأة في التصويت، انطلاقا من السعي إلى المساواة، وجعل المرأة والرجل متطابقين في الحقوق القانونية. وجعلت "التصويت" معركتها الفارقة، وقنطرتها للعبور إلى "جنة المساواة"، ومنظارها لاعتبار المرأة قد تساوت بالرجل. والحق أنه يتضح لمن تأمل ذلك أن النسوية تطالب المرأة بنوع تفحص ومتابعة للحياة العامة، وتحليل لمعطيات بيئتها، واستخراج لمعايير ترشيح متقدم لمنصب قيادي. لقد حدد علماء الشريعة الشروط المعتبرة فيمن يختار الإمام أو من دونه، ومنها: العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة أو ما دونها، والرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو أهل للمنصب المراد الترشيح له، وهذان الشرطان غالبا ما لا يتوافران في المرأة، ومن ثم نشأ الخلاف في حكم مشاركتها في عملية الانتخاب. والمراد توجيه الأنظار إلى اعتبار طبيعة رسالة المرأة -التي تقتضي بقاءها في البيت وانشغالها بشؤونه، وبعدَها عما لا يعنيها من الأمور- تحول بينها وبين معرفة من يستحق الترشيح، ولا يطلب أن يكون لديها خبرة بهذه الشؤون. كما أنها عاطفية تتأثر بالدعاية إلى حد كبير، ولا تستطيع معرفة حقيقة الأمر مع وجود مرشحين كثر كل منهم يدعي لنفسه المصداقية والحرص على المصالح العامة. كذلك فإن عملية الانتخاب والترشيح تستلزم سلسلة من الاجتماعات والاختلاطات ونحو ذلك من أنواع الشر والأذى التي ينبغي للمرأة أن تبعد نفسها عنها.

وهنا أمر ينبغي التنبيه عليه وهو أن حق المرأة في التعبير وإبداء الرأي فيما يمكن أن تبدي رأيها فيه -أمر ثابت لا يستطيع أحد أن يسلبها إياه، ولكن لا بد أن يكون هذا التعبير عن علم وبصيرة، ولو لم يكونا لدى صاحب الرأي فليس أهلا لإبدائه -رجلا كان أو امرأة-.

والنسوية في موجتها الأولى تطالب المرأة بأن تتخلى عن شيء من معايير أنوثتها لتضطلع بمهمة الترشيح والتصويت! فتكون حاكمة بالعقل لا بالهوى، قادرة على ضبط انفعالاتها ووزن الأمور بميزان المنطق، كابتة لمشاعرها حتى لا تتدخل في عملية التصويت، مماكسة للذكور في ساحات السياسة ومزايلتهم. وهكذا تهوي المرأة في هوة الترجل. ومعايير الأنوثة الموؤودة هنا قد جاءت مصرحا بها في الشرع الحنيف، الذي ضمن لها ما يلائم طبعها، ولم يكلفها عناء ليست بمطيقة له؛ فقال ﷺ: «استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء»متفق عليه [صحيح البخاري: 3331، صحيح مسلم: 1468]، من حديث أبي هريرة (21)، ومن المعلوم أن المرأة قد اختصها الله -تعالى- ببعض الصفات الخَلقية والخُلُقية عن الرجل، كما قال تبارك وتعالى: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾  [آل عمران: 36].

وقد اختلف أهل العلم في معنى «خلقت من ضلع»: هل هو من أضلاع آدم أو من عوج؟ قال ابن العربي: "يحتمل الحقيقة؛ فقد روي: أن آدم نام، فانتزع ضلع من أضلاعه اليسرى، فخلقت منه حواء، فلما أفاق وجدها إلى جانبه، فلم ينفر واستأنس لأنها جزء منه... ويحتمل المجاز، والمعنى: خلقت من شيء معوج صُلب، فإن أردت تقويمها  كسرتها، وإن تمتعت بها على حالها تمتعت بشيء معوج فيما يمكن أن يصلح فيه" عارضة الأحوذي: 5/162. (22).

والغرض أنه على كلٍّ؛ فإن في المرأة اعوجاجا في الطبع والخلق، ونقصا في العقل، مجبولة عليه وهو من فطرتها،كالغيرة الشديدة والعاطفة الجياشة. قال القاضي عياض: "وقوله: «استوصوا بالنساء خيرا، فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج» الحديث، فيه الحض على الرفق بهن، ومداراتهن ، وألا يتقصى عليهن في أخلاقهن، وانحراف طباعهن، لقوله: «إن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته استمتعت به على عوج»"إكمال المعلم: 4/680. (23). وقال ابن علان: "«خلقت من ضلع لن تستقيم لك» أي: تدوم «على طريقة» ترضاها. والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأن سائلا يقول: ماذا ينشأ من كونها خلقت من ذلك؟، فقال: لن تستقيم «فإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج، وإن ذهبت تقيمها» إقامة تامة مرضية لك «كسرتها» لأنه خلاف شأنها" دليل الفالحين: 3/97. (24).

وهذا النقص والعوج في غاية المناسبة لخلقتها، ولكونها سكنا لزوجها، وحاضنة لأطفالها، قال ابن هبيرة: "وقوله: «أعوج ما في الضلع أعلاه»، يعني به ﷺ فيما أراه أن حنوها الذي يبدو منها -إنما هو عن عوج خلق فيها، وهو أعلى ما فيها من حيث الرفعة على ذلك، فإن أعلى ما فيها الحنو، وذلك الحنو فيه عوج"الإفصاح عن معاني الصحاح: 7/160. (25).

انبعثت الموجة الأولى من النسوية وما تلاها، من إرادة التسوية بين الرجل والمرأة، ومقتضاها طمس أنوثة الأنثى، ومسخها ذكرا يتسم بسيما الذكور، حتى قالت غلوريا ستاينم: "النسوي هو أي شخص يعترف بالمساواة الكاملة بين النساء والرجال" Frederica Mathewes-Green and Haven Bradford Grow, "Feminists Should Oppose Abortion"; "Feminism: Opposing Viewpoints" (September 1994), edited by Carol Wekesser, p. 218 (26). والمناداة بالمساواة بينهما مصادم للفطرة والطبيعة البشرية، وكيف تمكن المساواة وهما كائنان مختلفان خلقة وصفات؟! إن معنى المساواة يدور على المماثلة والمعادلة، "السين والواو والياء أصل يدل على استقامة واعتدال بين شيئين، يقال هذا لا يساوي كذا، أي لا يعادله، وفلان وفلان على سوية من هذا الأمر، أي سواء"مقاييس اللغة: 3/112. (27). أما العدل: "ما قام في النفوس أنه مستقيم، وهو ضد الجور... والعدل: الحكم بالحق"لسان العرب: 11/430. (28). فالعدل هو الإنصاف وإعطاء المرء ما له وأخذ ما عليه، كل بحسَبه.

سعت الموجة الثانية إلى اجتثاث تبعية المرأة للرجل، والتقليل من قيمة الأدوار التقليدية للجنسين؛ وحطت على أدوار المرأة في المنزل واعتبرتها دونية، مثل رعاية الأطفال، وتدبير المنزل، وإعطاء الأولوية للأسرة، لصالح أهداف مدفوعة بالمهنة تعكس السمات الذكورية التقليدية مثل الحزم والتنافسية، فقلل هذا التحول من قيمة الصفات العاطفية والرعاية المرتبطة بالأنوثة. فأين هذا من شهادة النبي ﷺ لنساءٍ بالخيرية بسبب هذه الصفات التي همشتها النسوية؟! قال ﷺ: "خير نساء ركبن الإبل نساء قريش؛ أرعاه على زوج في ذات يده، وأحناه على ولد في صغره" مسند أحمد: 28/126، عن معاوية -رضي الله عنه-، وسنده صحيح. (29).

لقد شهدت كاميل باغليا، الأكاديمية الأمريكية والناقدة النسوية، أن النسوية الحديثة تقضي على أنوثة المرأة، وتعزز التماهي بين الجنسين، حيث يتم الاحتفاء بصفات في المرأة هي من سمات الذكور، في حين يتم تهميش السمات الأنثوية الطبيعية أو اعتبارها نقاط ضعف Paglia, C. (2017). Free Women, Free Men: Sex, Gender, Feminism. Knopf Doubleday Publishing Group (30).

.

وبسبب تمهيد الموجة الأولى من النسوية لنصب المرأة غرضا أمام سهام القانون إلى جانب الرجل، تماما بتمام كأسنان المشط Obiora, L., & Perry, R. (2001). Feminist Legal Theory. International Encyclopedia of the Social & Behavioral Sciences, 5464–5469. https://doi.org/10.1016/B0-08-043076-7/02929-6 (31)، بلا مراعاة لما بينها وبين الرجل من فروق فطرية تخدم رسالة كل منهما وتمكنه من أدائها -نتج الإلزام بالتجنيد الإجباري للنساء ومطالبتهن بالمثول أمام الجهات العسكرية في بلادهن لأداء الخدمة! الأمر الذي تعتبره النسوية من "منجزات" الموجة الثالثة التي ركزت على المساواة بين الجنسين في "كل" جوانب الحياة، وليس القانونية والتصويت فقط. ومن أشهر أمثلة "دول العالم الأول" التي تلزم المرأة بأداء الخدمة العسكرية: النرويج Persson, A., & Sundevall, F. (2019). Conscripting women: gender, soldiering, and military service in Sweden 1965–2018. Women’s History Review, 28(7), 1039–1056. https://doi.org/10.1080/09612025.2019.1596542 (35) https://www.securitywomen.org/post/a-look-at-norways-approach-to-gender-neutral-conscription (34)، والسويدTong, R. (2001). Feminist Theory. International Encyclopedia of the Social & Behavioral Sciences, 5484–5491. https://doi.org/10.1016/B0-08-043076-7/03945-0 (33). كانت النرويج أول دولة في حلف شمال الأطلسي تطبق التجنيد المحايد بين الجنسين في عام 2015، ويُطلب من الرجال والنساء الخدمة بشروط متساوية، حيث تستمر الخدمة من 12 إلى 19 شهرا. وأعادت السويد تطبيق التجنيد الإجباري في عام 2017 وجعلته محايدا بين الجنسين، فيتم استدعاء كل من الرجال والنساء للخدمة بناء على احتياجات الجيش، وتستمر فترة التجنيد الإجباري 12 شهرًا https://in-cyprus.philenews.com/local/women-in-the-army-and-which-countries-mandate-conscription (36). كما يفرض الكيان الصهيوني الخدمة العسكرية الإلزامية على الرجال والنساء على حد سواء، فيجب على النساء الخدمة لمدة عامين ضمن مجموعة واسعة من الأدوار، بما في ذلك المناصب القتالية السابق (37). ويفترض بهذه المجتمعات أن تمثل بعض صفوة العالم المتحضر، لكنها -كما قلنا- حضارة تسليع للمرأة ووأد لأنوثتها، أفبعد استدعاء المرأة للتجنيد الإجباري من طمس للأنوثة؟!

وقد رسخ الانفتاح الجنسي -الذي أذكت ناره الموجة الثالثة والرابعة- الحيادَ بين الجنسين وقيمة الازدواجية الجنسية، فثمّنت تفكيك المعايير الجنسية الجامدة محوًا للتمييز بين الرجال والنساء، وفحوى هذا أن يستبدل بالمفاهيم التقليدية للأنوثة -مثل النضارة والنعومة والرعاية- الازدواجية الجنسية، حيث تطالب النساء بالكد وتحدي طبيعتهن الأنثوية للتصرف بشكل أكثر مثل الرجال من أجل تحقيق المساواة وشق طريقها في عالمهم، حتى تتغير في مظهرها ومخبرها -بإرادة منها أو رغما عنها- لتقترب من الرجل. وقد لعن رسول الله ﷺ ‌المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال صحيح البخاري: 5886، عن ابن عباس (38).

ولفتت كريستينا هوف سومرز -المؤلفة والفيلسوفة الأمريكية- إلى أن النسوية تقلل من أهمية الاختلافات البيولوجية والنفسية بين الجنسين، وتعتقد أنه من خلال الترويج لفكرة تماثل الرجال والنساء بشكل أساسي، فإن النسوية تثبط عزيمة النساء عن تبني الأنوثة والأدوار النسائية التقليدية[35]،[36]. كما تشير ماري هارينجتون - كاتبة إعلامية أمريكية- إلى أن النسوية أضرت بالنساء حيث أدت إلى تحول ثقافي يُتوقع فيه من النساء متابعة حياتهن المهنية ورفض الأنوثة، في خيانة للأدوار الأنثوية الطبيعية، فحصل انقطاع بين الحقائق البيولوجية والتوقعات الاجتماعية للنساء، وتآكلٌ للأنوثة والهياكل الأسرية التقليدية، والتي تعتقد أنها حيوية لرفاهة النساء وسعادتهن. كما ترى أن هذا السعي وراء "التقدم" نتج عنه تهميش النساء اللاتي يفضلن الأدوار "الأصلية"، حيث تحتفل النسوية بشكل متزايد بالإنجازات المهنية على حساب أدوار الرعاية، وهذا يخلق انقسامًا تستفيد فيه القلة من النساء الثريات فقط من المثل النسوية، لأنهن الناجحات أصلًا في مهنهن، مما يترك غالب النساء محبطات يائسات ومتطلعات دومًا إلى ما يعجزن عنه[37]. ويمكن التمثيل لهذا في نقاط خمسة:

فالنساء الثريات يستفدن من الدخل المرتفع ليوظفن مساعدات منزليات، مربيات أطفال، وطهاة، مما يسمح لهن بالتركيز على حياتهن المهنية دون أعباء الأعمال المنزلية أو الرعاية اليومية. والواقع أن النساء من الطبقات الأقل ثراءً هن العاملات في هذه الأدوار، مما يخلق طبقية في تقسيم الأدوار الاجتماعية، فتكون النسوية التي ضمنت للثرية مزيدًا من الراحة والترقي الوظيفي بحجة لزوج مساواتها في ذلك للرجل -هي ذاتها التي قصمت ظهر الطبقة الأقل ثراء باضطلاعن بمهمات النسوة المنصرفات عن أدوارهن الأصيلة.

كما أن هذا التنافس المحموم من المرأة لملاحقة الرجل قد جعل التعليم المرموق وفرص التدريب المهني مكلفة بسبب المحدودية، فتأتي النساء الثريات في وضع أفضل لتحقيق إنجازات مهنية تتوافق مع القيم النسوية التي تحتفي بالمناصب العليا والإنجازات الفردية. والواقع أن النساء من الطبقات المتوسطة والدنيا يفتقرن غالبًا إلى الوصول لنفس الفرص، مما يحد من قدرتهن على تحقيق "المثل النسوية" فشعرن بالإحباط، ويظللن شاخصات الأبصار إلى النخبة الثرية.

والنساء الثريات يمكنهن تأجيل الأمومة أو تقليل ضغوط الإنجاب من خلال الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة التي تمكنهن من ذلك، أو اختيار عدم الإنجاب مطلقًا دون مواجهة الوصمة الاجتماعية التي تواجهها النساء الأخريات الأقل ثراءً، اللائي غالبًا ما يواجهن ضغوطًا للالتزام بدور الأمومة التقليدي بسبب نقص الموارد التي تتيح لهن خيارات مشابهة، فحاصل الأمر أن النسوية تنظر إلى النساء الفقيرات على أنهن غير جديرات بالنسوية!

إضافة إلى ما سبق، فإن المجتمع الذي يتبنى القيم النسوية الحديثة يحتفي بالنساء اللواتي يحققن إنجازات مهنية كبرى، مثل المناصب القيادية أو ريادة الأعمال، وهي إنجازات غالبًا ما تكون متاحة للنساء الثريات، في حين كون النساء اللواتي يفضلن أدوار الرعاية، مثل الأمومة أو العمل بدوام جزئي لرعاية الأسرة، يَنظر إليهن على أنهن "غير طموحات" أو خارج نطاق "التقدم النسوي".

والنساء الثريات قادرات على الإفادة من مجموعات النخبة، ولديهن شبكات اجتماعية ومهنية قوية تساعدهن على الحصول على دعم وفرص لا تتوفر للنساء من الطبقات الأقل. هذا الدعم يساهم في زيادة الفجوة بين من ينجحن في تحقيق المثل النسوية ومن يُتركن في الخلف.

لقد دفعت النسوية الإناث في سبيل احتذاء مثال جديد؛ مثال يفرض عليهن أن يحققن النجاح في المجالات التي يهيمن عليها الذكور تقليديا -مثل الأعمال أو العلوم أو السياسة-، وأوجبت عليهن التركيز على النجاح المهني بشكل طغى على قيمة الأمومة وغيرها من الأدوار النسائية.

إن المرأة اللاهثة في هذا السعي المحموم للترجّل، لا هي أدركت وجهتها، ولا حفظت أصلها ومهمتها التي لا يستطيعها الرجال، فاستحالت مسخًا، في قيمها وتوجهاتها وباطنها، ثم في سلوكها وأفعالها وظاهرها.

والإسلام قد حفظ للمرأة أنوثتها وفطرتها، ورصفها في ميزان العدل الإلهي، لا المساواة الوضعية، فلم تؤمر المرأة بجهاد ولا قتال، بل جعل لها ثواب الجهاد بلا مشقته -مراعاة لضعفها وطبيعتها- إن هي جاهدت فيما يلائمها من أعمال. وقد جاءت امرأة مؤمنة بالله ورسوله إلى النبي ﷺ تردّ إليه ما ألْفته من استشكال حول التفاوت بين الجنسين، فأجابها الله من فوق سبع سماوات بإجابة تعلي من مكانة المرأة وتضمن لها ما يصلحها -لا كما فعلت النسوية المعاصرة من تصلية المرأة بلهيب المساواة-، فعن أم سلمة رضي الله عنها؛ أنها قالت: يغزو الرجال ولا يغزو النساء -وفي رواية: لا نقاتل فنستشهد-، وإنما لنا نصف الميراث؛ فأنزل الله:وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ[النساء: 32][38]، وفي رواية: ثم أنزل الله أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى[آل عمران: 195] .

فلا أعجبَ من تبني بعض النساء أفكارَ النسوية المعاصرة، فرحات بشعاراتها المعلنة أيما فرحة، غافلات عما قد أعد لهن، وعما أريد بهن من مكر الليل والنهار!

 

شارك المحتوى: