عنوان الخطبة: من منكرات الأسواق.
عناصر الخطبة:
١- أحكام الشريعة مصلحة للدنيا والدين.
٢- المؤمن لا تسترقّه زينة الدنيا.
٣– منكرات الأسواق.
٤- الغيرة على الأعراض.
الحمدُ للهِ الذي جعلَ شريعتَهُ رحمةً للعالمينَ، وصلاحًا للدُّنيا والدِّينِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ.
أمَّا بعدُ، فاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهِ حقَّ التَّقَوى، وراقبوهُ في السِّرِّ والنَّجوى، {١}.
عِبادَ الله:
هل سمعتُم عن سوقِ الجنةِ؟
يقول النبيُّ ﷺ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا، يَأْتُونَهَا كُلَّ جُمُعَةٍ، فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ فَتَحْثُو فِي وُجُوهِهِمْ وَثِيَابِهِمْ، فَيَزْدَادُونَ حُسْنًا وَجَمَالًا، فَيَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ وَقَدِ ازْدَادُوا حُسْنًا وَجَمَالًا، فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُوهُمْ: وَاللهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالًا، فَيَقُولُونَ: وَأَنْتُمْ، وَاللهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالًا» (١)
ما أعظمَ الجَمْعَ! وما أطيبَ اللقاءَ! وما أجملَ الجزاءَ! يزيدُهُم حُسنًا وجمالًا ربُّ الأرضِ والسماءِ!
لا يزالُ الناسُ منذُ خلقَهُم اللهُ وهم يَتبايعونَ، يُنشِئونَ الأسواقَ، ويُقيمونَ التِّجاراتِ، وهذا مما لا غِنًى للناسِ عنهُ.
وشريعةُ اللهِ الهاديةُ العادلةُ جاءتْ بإصلاحِ الدُّنيا والآخرةِ، لِيحيَا الإنسانُ بهذا الدينِ الحياةَ الطيِّبةَ.
ولأنَّهُ لا انعزالَ للشريعةِ عن حياةِ الناسِ، فإنَّ أحكامَها تَكْتنِفُ كلَّ مجالاتِ الدُّنيا، ومن ذلكَ أسواقُ الناسِ وبَيْعُهُم وشراؤُهُم.
وفي هذا العصرِ الذي طغَتْ فيهِ الرَّأْسَماليَّةُ، عصرِ السِّلْعةِ الجاذبةِ، والصورةِ الفاتِنةِ، تُسَوَّقُ الدُّنيا بزخرُفِها البهيِّ، ويُدفَعُ الناسُ إلى الأسواقِ الكبرى دفعًا، عروضٌ وخصوماتٌ، فعالِيّاتٌ ومِهْرَجاناتٌ، حَفَلاتٌ وسَهَراتٌ، إلَّا أنَّ للمسلمِ مع ذلكَ وَقَفاتٍ، ليُبصرَ ما يُرضي ربَّ البرياتِ.
إخوة الإسلام:
إنَّ المسلمَ عبدٌ للهِ وحدَهُ، لا يسترقُّهُ أحدٌ، أمَّا عبيدُ الدُّنيا فحالُهُم كما أخبرَ النبيُّ ﷺ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمِ، وَالقَطِيفَةِ، وَالخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ». (٢)
أتدري من هو عبدُ القَطيفةِ والخَميصةِ؟
إنَّهُ عبدُ الثيابِ الفاخرةِ، والأَكسيةِ الباهِرةِ.
عندمَا تتعلَّقُ القلوبُ بالدُّنيا ومتاعِها وزينتِها يُصبِـحُ الإنسانُ أسيرًا لها، يسعى لأجلِها، يُفني عُمُرَهُ في سبيلِ متاعٍ زائلٍ، يُصبِحُ ويُمسِي مَهْمومًا بهِ، يشْتَدُّ حزنُهُ على فواتِهِ، ويُسارِعُ في إشباعِ رَغَباتِهِ.
يتتبَّعُ المشاهيرَ في وسائلِ التَّواصلِ، هذا يركبُ سيارةً فارهةً، وآخرُ يَلبَسُ ثوبًا فاخِرًا، وثالثٌ يستعرضُ أثاثًا باهِرًا، فيُقارِنُ ذلكَ بحالِهِ، فيَزْدَري رِزقَ اللهِ الذي قدَّرَهُ لهُ، ويَحْزَنُ ويَسْخَطُ، ثمَّ يجتَهِدُ لِيَنالَ تلكَ الرَّغْبةَ، فمنهُم مَن يَنْغَمسُ في تحصيلِ الدُّنيا حتى تَشْغَلَهُ عن نيلِ درَجاتِ الجَنّاتِ، ومنهُم مَن يَحمِلهُ حِرْصُهُ على تركِ الواجباتِ وفعلِ المحرَّماتِ، فلَرُبَّما أغْرَتْهُ البنوكُ الرِّبَوِيَّةُ بالقُروضِ يَسيرةِ الفوائدِ، أو يسَّرتْ لهُ استعمالَ بطاقاتِ الائتمانِ الرِّبويةِ، ومنهُم من يَنْغمسُ في الرِّشوةِ أو الاختلاسِ، أو الظُّلْمِ وأكلِ أموالِ الناسِ، كلُّ هذا لأجلِ متاعٍ مِنَ الدُّنيا زائلٍ.
فلا عجبَ أنْ وصَّى اللهُ تعالى نبيَّهُ ﷺ فقالَ: {٢}[طه: ١٣١].
عبادَ الله:
إنَّ الأسواقَ -مع كونها واقعًا لا يستغني عنهُ الناسُ- قد أخبر النبيُّ ﷺ عنها قائلًا: «أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا». (٣)
وإنَّما كانتِ الأسواقُ أبغضَ البقاعِ إلى اللهِ؛ لِما يحدثُ فيها منَ المنكَراتِ، فكم يقعُ فيها مِنَ الرِّبا، وبُيوعٍ محرَّمةٍ، وأَيمانٍ كاذبةٍ، وخداعٍ وغِشٍّ وتَدْليسٍ، وكم فيها من غَفلةٍ عن ذكرِ اللهِ وأداءِ الصلاةِ.
إنَّ أسواقَ المسلمينَ يجبُ أنْ تَخْتَلفَ عن أسواقِ غيرِهِم، إذ إنَّ قيامَ الدُّنيا تُنظِّمُهُ شريعةُ الرحمنِ، ورَغمَ ذلكَ فإنَّ الأسواقَ التي صارتْ كالمحافلِ الضَّخمةِ الواسعةِ تَعِجُّ اليومَ بكثيرٍ منَ المنكَراتِ التي يجِبُ على المسلمينَ إنكارُها، فإنَّ انتشارَ الخَبَثِ نذيرٌ لوُقوعِ الهلاكِ.
فقد سألتْ زينبُ بنتُ جَحشٍ، رضيَ اللهُ عنها، النبيَّ ﷺ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟» قَالَ: «نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ». (٤)
وإنَّ مِنَ الخَبَثِ الذي يملأُ الأسواقَ اليومَ تلكَ الصورةُ التي اجتمعتْ فيها كثيرٌ منَ المنكَراتِ التي هي سبيلُ الموبِقاتِ المُهلكاتِ، حيثُ تَرى أصواتَ الموسيقى والأغاني تملأُ الآذانَ، والاختلاطَ بينَ الرجالِ والنساءِ، يُحدِّقُ بعضُهُم في بعضٍ دونَ نُكرانٍ، كثيرٌ منهنَّ تخرُجُ متبرِّجةً متزيِّنةً متعطِّرةً، تُزاحِمُ الرجالَ في المحلاتِ والمطاعمِ، ولربَّما قلَّ حياؤها فسمِعْتَ ضَحِكَها معَ الباعةِ، فهلْ هذا يُرضي اللهَ؟!
إنَّ الموسيقى والغناءَ منَ المنكَراتِ التي تستوجبُ نزولَ العقوباتِ.
يقول ﷺ: «فِي هَذِهِ الأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ»، فَقال رَجُلٌ مِنَ الـمُسلِمِين: «يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَتَى ذَاكَ؟» قَالَ: «إِذَا ظَهَرَتِ القَيْنَاتُ وَالمَعَازِفُ وَشُرِبَتِ الخُمُورُ» (٥). والقَيْنَاتُ هنّ المغنّيات.
ثمَّ يا عبادَ اللهِ! ألم يأمُرِ اللهُ تعالى نساءَ المؤمنينَ بالسِّترِ والحِجابِ في آياتٍ محكماتٍ؟
قال تعالى: {٣}[الأحزاب: ٥٩].
ألم يَقُلِ النبيُّ ﷺ: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا»، -وذكر منهم:- «وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُؤوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا»؟ (٦).
هلْ تلكَ المرأةُ التي خرجتْ للأسواقِ في كاملِ زينتِها، ووضعتْ أجملَ عطورِها، فعلتْ ما يُرضي اللهَ؟
يقول النبيُّ ﷺ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ لِيَجِدُوا مِنْ رِيحِهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ». (٧).
ولربَّما ازدادَ الأمرُ قُبْحًا وسُوءًا، فخلَتِ المرأةُ بالبائعِ في مكانٍ مُغلَقٍ، فكَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ، وهذا منكرٌ عظيمٌ!
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لاَ تُسَافِرِ المَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، وَلاَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا رَجُلٌ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ». (٨).
إنَّ نصوصَ الشّريعة متواترةٌ في النَّهيِ عن الاختلاطِ بين الرجال والنساء، بل إنَّ النبيَّ ﷺ خرج يومًا من مسجدِه فَاخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلنِّسَاءِ: «اسْتَأْخِرْنَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ، عَلَيْكُنَّ بِحَافَاتِ الطَّرِيقِ»، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَلْتَصِقُ بِالْجِدَارِ حَتَّى إِنَّ ثَوْبَهَا لَيَتَعَلَّقُ بِالْجِدَارِ مِنْ لُصُوقِهَا بِهِ. (٩).
نساءُ الصَّحابةِ الذينَ هم خيرُ الأمّةِ، خرجْنَ للتوِّ منَ الصلاةِ مع رسولِ اللهِ ﷺ، ومعَ ذلكَ نهاهُنَّ عنِ السَّيرِ وسَطَ الطريقِ ومزاحمةِ الرجالِ.
لقد قالت امرأةٌ يومًا لأم المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ! طُفْتُ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَاسْتَلَمْتُ الرُّكْنَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا! فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: «لَا آجَرَكِ اللَّهُ! لَا آجَرَكِ اللَّهُ! تُدَافِعِينَ الرِّجَالَ؟! أَلَا كَبَّرْتِ وَمَرَرْتِ؟» (١٠).
هذا إنكارُ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها على امرأةٍ مُسْتترةٍ بحجابِها طافتْ فزاحمتِ الرجالَ لاستلامِ الرُّكنِ، فكيفَ لو رأتْ ما تفعلهُ نساءُ المؤمناتِ في الأسواقِ والمِهْرَجاناتِ؟
ويجبُ على المؤمنين والمؤمنات غضُّ الأبصار، كما أمرهم الله تعالى فقال: {٤}[النور: ٣٠]، وقال: {٥}[النور: ٣١].
كُلُّ الْحَوَادِثِ مَبْدَاهَا مِنَ النَّظَرِ
وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ
كَمْ نَظْرَةٍ فَتَكَتْ فِيْ قَلْبِ صَاحِبِهَا
فَتْكَ السِّهَامِ بِلا قَوْسٍ وَلا وَتَرِ
باركَ اللهُ لي ولكُم في القرآنِ العظيمِ، ونَفَعني وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، وأَستغفرُ اللهَ لي ولكُم فاستغفِروهُ، إنَّه هو الغَفورُ الرّحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رَسُولِ الله، وعلى آلِهِ وصَحبِهِ ومَن والاهُ، وبعد:
فما أعظمَ الغَيْرةَ على المحارمِ والأعراضِ! تلكَ الغَيْرةُ التي يتزيَّنُ بها الرِّجالُ الأطهارُ.
لقد كان سعدُ بن عبادة رضي الله عنه مِن أشدِّ الناس غَيْرةً، فقال عنه النبي ﷺ: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ وَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ! وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي، وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ». (١١).
إنَّني أختمُ حديثي برسالةٍ للرِّجالِ عابرةٍ للزَّمانِ من أبي الحسنِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضيَ اللهُ عنه، عندما بلغَهُ في زمانهِ أنَّ بعضَ النساءِ يخرُجنَ يزاحِمْنَ العلوجَ -وهم ذُكرانُ الكفارِ- في الأسواقِ، فقال: «أَمَا تَغَارُونَ أَنْ يَخْرُجَ نِسَاؤُكُمْ!؟ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ نِسَاءَكُمْ يَخْرُجْنَ فِي الْأَسْوَاقِ يُزَاحِمْنَ الْعُلُوجَ». (١٢).
فيا عبادَ اللهِ! الامتثالُ لشريعةِ اللهِ يكونُ في كلِّ شيءٍ، في مساجدِنا، في بُيوتِنا، في أسواقِنا، في محافلِنا، في قضائِنا، في سياساتِنا، فبِها تكونُ النجاةُ والحياةُ الطيبةُ، في الدنيا والآخرةِ.
اللَّهُمَّ انصُرِ الإسلامَ وأعِزَّ المسلمينَ، وأهْلِكِ اليهودَ المجرمينَ، اللَّهُمَّ وأنزِلِ السَّكينةَ في قلوبِ المجاهدينَ في سبيلِكَ، ونَجِّ عبادَكَ المستضعَفينَ، وارفعْ رايةَ الدِّينِ، بقوَّتِكَ يا قويُّ يا متينُ.
اللّهُمَّ آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلِحْ أئمَّتَنا ووُلاةَ أمورِنا، واجعل وِلايتَنا فيمن خافَكَ واتّقاكَ واتّبعَ رِضاك.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.