عنوان الخطبة: حتى يكون أحبّ إليك من نفسك (صدق محبة النبي ﷺ).
عناصر الخطبة:
١- مظاهر محبة الصحابة لرسول الله ﷺ.
٢- وجوب تقديم حب الله ورسوله ﷺ على ما سواهما.
٣- عنوان المحبة الاتباع وترك الابتداع.
الحمدُ للهِ الذي بعثَ نبيَّهُ محمدًا سراجًا منيرًا، وجعلَ محبتَهُ واتِّباعَهُ دينًا قويمًا، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ، فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ حقَّ التقوى، وراقبوهُ في السرِّ والنجوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
هل بَلَغك نبأُ سيِّدِ اليمامةِ، ثُمامةَ بنِ أُثَال؟
بعث النبيُّ ﷺ سَريَّة، فجيء به أسيرًا، وربطوه بسارية من سواري المسجد، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ، فَقَالَ: «مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟» فَقَالَ: عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ! إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ المَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ.
على مدار ثلاثة أيام، يتكرر السؤال والجواب، وفي اليوم الثالث قال النبي ﷺ: «أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ!».
فذهبَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ المَسْجِدَ، فَقَالَ: «أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثم قال: يَا مُحَمَّدُ! وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الوُجُوهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ البِلاَدِ إِلَيَّ!».
ثم قَدِمَ مَكَّةَ معتمرًا، فقَالَ لَهُ قَائِلٌ: صَبَوْتَ، قَالَ: «لاَ، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَلاَ وَاللَّهِ، لاَ يَأْتِيكُمْ مِنَ اليَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ، حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ ﷺ». صحيح البخاري (٤٣٧٢)، وصحيح مسلم (١٧٦٤). (١)
إنَّ كلَّ زكيِّ القلبِ عَرَفَ النبيَّ ﷺ بأخلاقِهِ العَلِيّةِ وشمائلِهِ الزَّكيّةِ لا يملكُ إلا أن يُحبَّهُ، بل إنَّهُ يملكُ عليه قلبَهُ.
لذلكَ لم يوجدْ أحدٌ أحبَّ أحدًا، كحبِّ أصحابِ النبيِّ ﷺ له.
إنَّها المحبّةُ الصادقةُ، ليست كتلكَ الدَّعاوى الفارغةِ.
لقد بلغَ حبُّهم له أن فدَوْهُ بأرواحِهِم، وقدَّموهُ على آبائِهِم وأهليهِم.
هذا أبو بكر الصديق، لما جَلَسَ النبيُّ ﷺ عَلَى المِنْبَرِ وقَالَ: «إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ». عَلِم الصِّدِّيقُ أبو بكر أن المخيَّر هو رسولُ الله ﷺ، وحينئذٍ بَكَى أَبُو بَكْرٍ وبكى وَقَالَ: «فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا يا رسول الله!» صحيح البخاري (٣٩٠٤)، وصحيح مسلم (٢٣٨٢) (٢)
ولما كان رضي الله عنه معه في الهجرة، أتى النبيَّ ﷺ بلبن شاة، فجعل يبرِّده لرسول الله ﷺ، ثم قال له: «اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ!»، قال أبو بكر: «فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى رَضِيتُ». صحيح البخاري (٢٤٣٩)، وصحيح مسلم (٢٠٠٩). (٣)
وفي يومِ الهجرةِ المباركةِ جعلتْ قريشٌ مالًا عظيمًا لمن يأتي برسولِ الله ﷺ وصاحبِه أبي بكر، فخرجَ المرتزِقةُ من كفارهم يجوبون الأرض بحثًا عنهما، حتى كاد أن يدركهما سراقة بن مالك، فلما رأى الصديقُ اقترابه بكى، فقال له النبي ﷺ: «مَا يُبْكِيكَ؟»، قُلْتُ: «أَمَا وَاللَّهِ مَا عَلَى نَفْسِي أَبْكِي، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَيْكَ». مسند أحمد (٣)، وصححه الألباني في التعليقات الحسان (٦٢٤٨). (٤)
ويوم أحُدٍ يقفُ النبي ﷺ كالأسَدِ الـهَصور، يتقدَّمُ نحوَ أعداءِ الله مقاتلًا مِقدامًا، إلا أن أبا طلحة جعل يحوط النبي ﷺ ويترِّسُ عليه قائلًا: «يَا نَبِيَّ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، لَا تُشْرِفْ، لَا يُصِبْكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ، نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ». صحيح البخاري (٣٨١١)، وصحيح مسلم (١٨١١). (٥)
وهذا عبدُ الله بنُ عبدِ الله بنِ أُبَيّ بنِ سَلول رضي الله عنه لـمّا بلغه أذى أبيه رأسِ المنافقين عبدِ الله بن أُبَيّ بْنِ سَلولٍ للنبي ﷺ، ذهب إلى النبي ﷺ قائلا: «وَالَّذِي أَكْرَمَكَ وَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ، لَئِنْ شِئْتَ لآتِيَنَّكَ بِرَأسِهِ»، فقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا، وَلَكِنْ بِرَّ أَبَاكَ وَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُ». صحيح ابن حبان (٤٢٨)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (٣٢٢٣). (٦)
لقد كانَ سرورُ قلبه ﷺ أحبَّ إليهم من الدنيا وما عليها.
ها هوَ الفاروقُ رضي الله عنه يقول للعباسِ عمِّ رسول الله ﷺ: «وَاللَّهِ لإِسْلامُكَ يَوْمَ أَسْلَمْتَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلامِ الْخَطَّابِ لو أسلم، وَمَا بِي إِلا أَنِّي قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ إِسْلامَكَ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ إِسْلامِ الْخَطَّابِ». المعجم الكبير للطبراني (٨/٩)، وصححه الألباني بطرقه في السلسلة الصحيحة (٣٣٤١). (٧)
بل بلغَ حبُّهم أن أحبوا ما أحبَّه بطبعه ﷺ، لا لشيءٍ إلا لأنه أحبه.
ها هو أنسٌ رضي الله عنه يَرى النبي ﷺ يأكل طعامًا فيه دُبّاءٌ، ورآه يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيِ القَصْعَةِ. قال أنس: «لاَ أَزَالُ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ بَعْدَ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَنَعَ مَا صَنَعَ». صحيح البخاري (٢٠٩٢)، وصحيح مسلم (٢٠٤١). (٨)
عباد الله:
إنَّ محبةَ اللهِ ورسولِه ﷺ يجبُ أن تُقدَّمَ على محبةِ ما سواهما، أن يكونَ اللهُ ورسولُه ﷺ أحبَّ إليكَ من مالِكَ وولدِكَ وأهلِكَ والناسِ أجمعين.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ»، ذكر أولها: «أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا...». صحيح البخاري (١٦)، وصحيح مسلم (٤٣). (٩)
وقَالَ النَّبِيُّ ﷺ «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ». صحيح البخاري (١٥)، وصحيح مسلم (٤٤). (١٠)
النبيُّ ﷺ أولى بكَ من نفسِكَ، لذا كانت محبتُهُ مقدَّمةً حتى على حُبِّكَ لنفسِكَ التي بينَ جَنْبَيْك.
كان النَّبِيُّ ﷺ يومًا آخِذًا بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي»، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لاَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ» فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: «فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي»، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الآنَ يَا عُمَرُ!» صحيح البخاري (٦٦٣٢). (١١)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإنَّ عُنوانَ المحبَّةِ الأعظمَ الإيمانُ والطاعةُ والاتباع المطلَق له ﷺ.
قال الله: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: ٣١]
إنَّ المُحِبَّ الصادقَ لا يُقدِّمُ قولَ أحدٍ على قولِه ﷺ، ولا حُكمَ أحدٍ على حكمِه.
هذا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما، يخبر عن النبي ﷺ أنه قَالَ: «الحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ» فَقَالَ رجلٌ: «مَكْتُوبٌ فِي الحِكْمَةِ: إِنَّ مِنَ الحَيَاءِ وَقَارًا، وَإِنَّ مِنَ الحَيَاءِ سَكِينَةً، وَمِنْهُ ضَعْفًا». فَغَضِبَ عِمْرَانُ حَتَّى احْمَرَّتَا عَيْنَاهُ وقَالَ لَهُ: «أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صَحِيفَتِكَ». صحيح البخاري (٦١٧٧)، وصحيح مسلم (٣٧). (١٢)
وهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، يُخبر عن رسول الله ﷺ أنه قال: «ائْذَنُوا لِلنِّسَاءِ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسَاجِدِ» فَقَالَ ابْنٌ لَهُ؛ يُقَالُ لَهُ وَاقِدٌ: إِذَنْ يَتَّخِذْنَهُ دَغَلًا (سبيلًا للفساد). فَضَرَبَ ابنُ عمرَ ولدَه فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: «أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَتَقُولُ: لَا». صحيح مسلم (٤٤٢). (١٣)
إنَّ محبةَ النبيِّ ﷺ تناقِضُ الابتداعَ في دينِ اللهِ، إذ كيفَ يُحبهُ من ينقضُ سُنتَهُ ويخالفُ هديَهُ؟
محبةُ النبيِّ ﷺ لا تكونُ بالغلوِّ فيه، والاستغاثةِ به، وإقامةِ الموالدِ التي تعِجُّ بالمنكَراتِ والشِّركياتِ والرقصِ والطُّبولِ.
إنما محبَّتُهُ الصادقةُ إيمانٌ به، واتباعٌ لسنتهِ، ونُصرةٌ لدينِه.
ورَحِمَ اللهُ الإمام مالكًا لـمّا قال: «مَنِ ابْتَدَعَ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةً يَرَاهَا حَسَنَةً، زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ خَانَ الرِّسَالَةَ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ[المائدة: ٣]، فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا، فَلَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا».
اللهمَّ انصرِ الإسلامَ وأعزَّ المسلمينَ، وأهلِك اليهودَ المجرمينَ، اللهمَّ وأنزلِ السكينةَ في قلوبِ المجاهدينَ في سبيلِكَ، ونجِّ عبادكَ المستضعفينَ، وارفعْ رايةَ الدينِ، بقُوَّتِك يا قويُّ يا متينُ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلبِرِّ وَالتَّقوَى.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.