عنوان الخطبة: المفسدون في الأرض
عناصر الخطبة:
١- معنى الفساد.
٢– أصل الفساد وأخطرُه الكفر بالله.
٣- الإيمان بالله واتِّباع شريعته أصل كل صلاح.
٤- عاقبة المفسدين ومآل المصلحين.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمدٍ وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فاتقوا الله عِبادَ الله حقَّ التَّقوى، وراقِبوه في السر والنَجوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
عِبادَ الله:
وقف فرعونُ يومًا بين قومِه يلبَسُ ثَوْبَ الواعظِ الأمين، يريد أن يُسَوِّغ لنفسه قتلَ موسى عليه السلام قائلًا: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ.
إنه فرعونُ الذي جَعَل نفسَه إلهًا من دون الله، بل وبَلَغَ مِن صَلَفه وطُغيانه أن قال: "أنا ربُّكم الأعلى"، فلا عَجَبَ في ظلِّ هذه السُلْطةِ الجائرة، أن جعلَ موسى -عليه السلام- مفسدًا يَجِبُ قتلُه، وجعل نفسَه الناصحَ الأمينَ لشعبه، يخاف عليهم الانحرافَ والفَساد.
إنه ذاكَ الطاغيةُ الـمُجرِم، الذي عاثَ في الأرض فسادًا، يقتلُ الأطفالَ ويستعبِدُ الرجال، الذي قال الله فيه:إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ.
ما أشبهَ الليلةَ بالبارِحة، إنه شأنُ رؤوسِ الطُّغاةِ المجرمين على مرِّ الزَّمان، يَكْفُرونَ باللهِ العَظِيم، ويستَكبِرُون على شَرْعِه ووَحيه، ويسفِكون الدماء، ويأكلون الأموالَ بالباطل، ويُشِيعون الفواحش، ويُفسِدون في الأرض بعد إصلاحها، ثم يقولون: "إنما نحن مصلحون".
عبادَ الله:
إن الله سبحانه خَلَق الإنسان صالحًا، على الفِطْرة، قابلًا للهداية والرَّشاد، وجعل الأرض صالحةً للمعاشِ وهيَّأها للعباد، وأنزل كُتبَه وأرسل رُسلَه لتزكية النُفوس وإعمارِ القلوب، وإصلاح الـمبدأ والمَعاد.
واللهُ سُبحانَهُ لا يُـحِبُّ الفساد، ولذا حرَّمَ الإفسادَ بشتَّى صُوَرِه، فقال سبحانه: وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا.
ولَمّا كانَ عصرُنا اليومَ يُعظِّمُ المادّة والدُّنيا، فإنَّ تُهمةَ (الفَسَاد) قاصِرَةٌ في أذهانِ أكثر الناس عَلَى أنواعٍ معيَّنة، مثلِ الاختلاسِ والرِّشوة، مع أنَّ الإفسَادَ في حَقيقتِه هو تَحويلُ كُلِّ شيءٍ عن الغَايةِ التي خلقَهُ الله لأجلِها، وغايةُ خَلقِ الإِنسانِ القيامُ بالعُبوديَّة لله وحدَه، وَفقَ المنهَجِ الرَّبّاني الذي أوحاهُ الله، ولذلك كان أعظمُ الفساد وأصلُ أنواعِه الكفرَ باللهِ تبارك وتعالى. قال الله سبحانه: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ.
وإنما كان الكفرُ بالله أعظمَ الفساد، لأنه مقابَلةٌ للربِّ العظيمِ -الذي كلُّ الحمد له، وكلُّ الخير منه- بالجحدِ والكُفرانِ الذي هوَ أسوأُ الأخلاقِ والأعمال، فأيُّ شيءٍ أفسدُ مِن هذا؟
ولأنَّ النفوسَ لا تَصْلُحُ إلّا بالإيمانِ باللهِ سُبحانَه، فإنَّ الإنسانَ إذا كفرَ بربِّهِ ماتَ قلبُه وفَسَدتْ روحُه، وصارَ جَسَدُه قبرًا لهذهِ الرُّوح، فلا يَصدُرُ عنها إلّا كلُّ سُوء.
إنَّ العبدَ المؤمنَ الذي آمنَ باللهِ العظيم، آمنَ بهِ ربًّا وإلهًا واحدًا لا شريكَ له، وآمنَ بجلالِه وكمالِه وجمالِه، تراهُ عظيمَ الحُبِّ لله، شديدَ الخوفِ منه، لا يرجُو خيرًا إلَّا منهُ سُبحانه، يرجُو لقاءَه، ويَخشى عذابَه، فتراهُ إنسانًا آخَر، قد حجَزَهُ إيمانُه عن أيِّ فَسادٍ وإِفساد.
أمَّا الكافِرُ باللهِ سُبحانَه فلا يحجِزُه عن الفَسادِ والإفسادِ شَيء، إنَّما فَسَادُه صادرٌ عن طُغيانِهِ وعُلُوِّه، فهُوَ ظَلومٌ جَهول، يلهثُ خلفَ شهَواتِه بكلِّ سبيل، ويُورِدهُ شَيطانُه كلَّ مَورِد، فلا مانعَ لَديهِ من قتلِ نفوسِ الأبرياء، ونَهْبِ أموال الفُقراء، وإتيانِ الفواحش، والعُدوانِ على الحُرُمَات.
قال سُبحانَه في وصفِ هذا الضَّرب مِن النّاس: أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ، فهو كَفَّارٌ كثيرُ العدوانِ على خلق الله، لا تكادُ ترى منه خيرًا، وكيف يُرتجَى الخَيرُ ممّن يَجحَدُ لقاءَ الله، ولا يُؤمن ببعثٍ ولا جَزَاء، فَما الذي سيحمِلُه على بذلِ المعروف والكفِّ عن الحُرُمات، إن لم تكُن لهُ مَصلَحَةٌ في ذلك؟.
وقال الله سبحانه: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، هل رأيتَ الذين يُكذّبون بدينِ الله وحسابه؟ فإنَّهم همُ الذين انتُزِعت من قلوبهِمُ الرحمةُ فصاروا وُحوشًا ضَارِيةً على الخلق، وَهُمُ الذي يُفسِدون الفِطَرَ والطُّفولة، فيَدْعون إلى الشُّذوذ والرَّذيلة، ويَحُثُّون على عقوقِ الآباء وتفكيكِ الأُسَر.
إنَّنَا نراهُمُ اليومَ يسُنُّون التّشريعاتِ التي تُقَنِّنُ الفساد، ويُنشِئون المؤسَّساتِ التي ترعاه، ويَعملون على نشرِه وتعميمِه، فأينَ هؤلاءِ مِنَ المؤمنينَ الذينَ يَهْدُون بالحقّ وبه يَعدِلون؟
لا يستوي الفريقَانِ يا عبادَ الله! قال سبحانه: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ؟
إنّنا بنظرةٍ واحدةٍ إلى عالَم اليومِ نُدرِك حقًّا مَن المُفسِد ومَن المُصلِح، فلَقَد وقفَ أدعِياءُ الحضارة وحقوقِ الإنسانِ يبيعُون الموت، يَقصفونَ البُيوتَ، ويَقْتُلون النِّساءَ والأَطفال، ويُحرِقون الأخضَرَ واليابِس، ويَسرِقُونَ ثرَواتِ البِلاد، ويَنشُرُون الفَواحِش، ويُبِيدون كلَّ مظاهر الصلاح والخير، ثم يَرفعون راياتِ الإصلاح بكل وَقاحة، فحالهم كالذي يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ.
عِبادَ الله:
إنَّه لا يمكن أن يَتَحقَّق صلاحٌ وإصلاحٌ إلا بالإيمان بالله، والحياةِ على منهج الله الذي أنزله في كتابه وعلى لسان رسوله محمد ﷺ.
لقد جاء الأنبياءُ يرفعون رايةَ الإصلاح حقًّا وصدقًا، كما قال شعيب -عليه السلام-: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ، وأوصى موسى أخاه هارون -عليهما السلام- فقال: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ.
كيف لا يَكونون دُعاةَ الإصلاح حقًّا وصدقًا وقد قامت دعوتُهم على توحيدِ الله بالعبادة والتعظيم، والبراءةِ من الكفر والشرك وأهله، وإصلاحِ حياة الناس بالشريعةِ الربّانيةِ الهاديةِ العادلة؟
نَهَوْا أقوامَهم عن الفساد والإفساد، عن إِتيان الفواحش، وظُلمِ الخَلق، والتَطْفيفِ في الميزان، وعن سائر المنكَرات، لكنَّ ذلك لم يُعجب الذين يَقْتاتون على الفساد والإفساد!
انظر إلى صالح -عليه السلام-، إذ تآمَرَ على قتلِه أولئك المجرمون المفسدون، وفي ذلك قال الله: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ.
وها هو لوطٌ -عليه السلام- يرى قومَه على فاحِشَةِ إتيانِ الذُّكور، فلمَّا نهاهم عن تلك الجريمة الشَّنْعاءِ أمروا بطَردِه ونفيه، كما قال الله عنهم: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ.
نعم والله إنَّهُم مُفسِدُون، وأيُّ فسَادٍ بعدَ الشِّركِ أعظمُ من ارتِكاسِ الفِطَرِ في مُستَنقَعِ الرَّذيلة الآسِن.
عِبادَ الله:
إنّ الإيمانَ بالله والاعتصامَ بالشريعة الربانية هو أمانُ الأرض وصلاحُها، وهكذا هو المؤمن: يُصلِح ولا يُفسد، كما وصفه النبي ﷺ فقال: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ النَّحْلَةِ أَكَلَتْ طَيِّبًا وَوَضَعَتْ طَيِّبًا، وَوَقَعَتْ عَلَى عُودٍ فَلَمْ تَكْسِرْ وَلَمْ تُفْسِدْ». أخرجه أحمد.
تأمَّل هذا التشبيهَ البليغ: تلكَ النحلةُ التي إن وقعت على عود لم تكسِرْه ولم تُفْسده، إنها لا تحملُ إلا الطيِّبَ ولا تضعُ إلا الطيب، ولا تؤذي حتى ذاك العودَ الذي وقفت عليه.
هكذا المؤمن بإيمانه وبشريعتِه المُصْلِحة، تجدُه يحمل للعالم الخيرَ والبِرّ، بالدَّعوة إلى الحقّ والهداية إلى الجنة، وحتى جهادُه إنما هو إصلاحٌ في الأرض، وتطهيرٌ من الفساد.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
عِبادَ الله:
إنَّ هؤلاء اليهودَ ومَن عاوَنهم يُوقِدون الحروب، ويَقْتُلون الأبرياء، ويسعَوْن في الأرض فسادًا، عاقبتُهم إلى هلاك، فهذا وعدُ الله.
قال الله: وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ.
هذه الأرض قضى الله سبحانه أن يرثها الصالحون المُصلحون. قال سبحانه: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ.
هكذا المؤمن: صالحٌ غيرُ مفسِد، لا يطيع أمرَ المفسدين، ويُصلح ما أفسده المجرمون. قال الله: وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ، وقال سبحانه: فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ.
ولا صلاحَ ولا إصلاحَ إلا بالإيمان بالله واتِّباع شريعةِ الرحمن، الذي قال: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ.
اللهمَّ أصلِح لنا دينَنَا الذي هو عِصمةُ أمرِنا، وأصلِح لنا دُنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادُنا.
اللهمّ نجِّ عبادَك المستضعفين، وارفع رايةَ الدين، اللهم عليك باليهود المفسدين في الأرض، شتِّت شَملَهُم، وفرِّق جمعَهم، وانصرنا عليهم بقوتك وعزّتك، يا قوي يا عزيز.
اللهمَّ وفِّقْ وليَّ أمرنا لِما تُحبُّ وترضى، وخُذ بناصيته للبرّ والتقوى. ربَّنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقِنا عذاب النار.
عِبَاد الله: اُذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، وَآخِرُ دَعْوَانا أَنِ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين.