تمكين المرأة: بين المنطلقاتِ المادّية، والمساواة المنشودة

تمكين المرأة: بين المنطلقاتِ المادّية، والمساواة المنشودة

الباحث: د. لؤي بن غالب الصمادي

تمكين المرأة: بين المنطلقاتِ المادّية، والمساواة المنشودة

 

ملخص الورقة:

تتناول هذه الورقة مفهوم "تمكين المرأة" من منظور نقدي، موضحةً أن هذا المصطلح يحمل دلالات فكرية وثقافية تتطلب الفحص والتمحيص. تُظهر الورقة ارتباط هذا المفهوم بفكرة المساواة بين الجنسين، وأن المطالبة بتمكين المرأة إنما هي ردة فعل للشعور بتهميشها والتمييز ضدها. تستعرض الورقة أيضًا وجود الفروق في الخصائص بين الجنسين، مشيرةً إلى الحكمة الإلهية في توزيع الأدوار بين الرجل والمرأة. كما تتناول الورقة تأثير الفكر المادي الغربي على تهميش القيم الإنسانية والأسرية التي تحملها الأنوثة، وتشير إلى تكرار النظرة الجاهلية التي تئد الأنثى في العصر الحديث. أخيرًا، تؤكد الورقة على أهم الضوابط الشرعية التي تضمن الحفاظ على خصائص الجنسين والتفريق القائم على العدالة بينهما لا المساواة المطلقة.
 

(تمكين المرأة) ومشروعية السؤال

من المصطلحات الشائعة في السياقات الفكرية والاجتماعية في عصرنا الحديث، مصطلح (تمكين المرأة)، وهو مصطلح حسنٌ ومقبول -إذا أخذ على ظاهره لأوّلِ وَهلَة- عند كلّ من يؤمن بالعدالة ويرعى حقوق المرأة، فالمرأة هي الأم والبنت والأخت والزوجة، وهي صنوُ الرَّجُل وشِقُّه الثَّاني، وكرامَتُها ومكانَتُها محفوظةٌ شَرعًا وفِطرةً وعُرفًا، فمن ذا يرفض تمكينَ المرأة؟

إلّا أن الباحثين في مجالِ الأفكار، والنّاظرين في المآلات والنَّتاجات الثقافية والاجتماعية، يُذعِنون لحقيقةٍ شهِدَ بها الواقِعُ المحسُوس، وهي أنّ هذا المصطلح يتضمّن حُمولةً فكريةً تحتاج إلى الفحص والنَّقد، للتحقّق من سلامَةِ مضامينها ودوافعها وغاياتِها، وموافقَتِها حقًّا للشرع والفطرة والعقل السديد.

والمُطالَبات بـ"تمكين المرأة"، تدلّ -ولا بدّ- على وجود فكرةٍ مقابلة لها، ألا وهي "تهميش المرأة"، وأنّ هذا التهميشَ مُشكلةٌ سائِدةٌ أو شائِعةٌ في المُجتَمَعات، استدعَت تلكَ المطالبات بمعالجة المشكلة من خلال "تمكين المرأة"، وقد يعبر عن هذا التهميش بأنه التمييز ضد المرأة، كما في اسم المعاهدة الدولية (سيداو - CEDAW) حيث إنها اختصار لـ (Convention on the Elimination of All Forms of Discrimination Against Women) بمعنى: (اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة)، ومن هنا يحضُرُ السُّؤال المهم: ما وجوه تهميش المرأة والتمييز الواقع ضدّها؟ حتى ندرك ما هي وجوه التمكين التي يُطالب بها من أجلها؟

ولا شكّ أن هذا السؤال مشروعٌ ومطلوب، لا سيّما مع ما نشهدُه اليوم من عبَثٍ بالقِيَم الفطرية والمحكمات الشرعية، التي وصلت ببعض المجتمعات إلى حدّ تغيير جنس الطفل تحت ستار (حرية التوجه الجنسي والهوية الجندرية)، وإلى حد تشريع الدعارة والإباحية الجنسية تحت شعار (ملكية المرأة لجَسدِها) أو (التمكين الاقتصادي)، وهذا ما يعرّفه خبراء الإعلام بالتأطير (Framing)، والذي يعدّ أداةً فعالة في توجيه الرأي العام وصياغة الأفكار والتصورات إيجابًا أو سلبًا، علمًا أنّ الشرّ والفسادَ لم يَظهَر يومًا بصورته الفجّة الصّريحة، وإنما يتم تمريره دائمًا بمصطلحات جذّابة، وأسماءٍ براقة، مما يتطلب من الناقدين عقلًا واعيًا، وعينًا فاحصة.
 

مفهوم تمكين المرأة

(التمكين) كما يُفهم من معناه اللغوي: مأخوذ من المكانة ينظر: الزَّبيدي، محمّد بن محمّد الحسيني. (2001). تاج العروس من جواهر القاموس (ج 36، ص 192). مؤسسة الكويت للتقدم العلمي. (1)، فهو يعني إعادة المكانة إلى المرأة، أو وضعها في مكانتها التي تستحقّها، أو هو مأخوذُ من المَكِنة، وهي القدرة والتمكّن، يقال: مكّنه من الشيء، تمكينًا، أي جعل له قدرةً وسلطانًا عليه  انظر: الأزهري، محمد بن أحمد. (2001). تهذيب اللغة (تحقيق محمد عوض مرعب، ج. 10، ص. 162). بيروت: دار إحياء التراث العربي. المطرزي، ناصر بن عبد السيد. (دون تاريخ). المُغرِب في ترتيب المعرِب. بيروت: دار الكتاب العربي، ص432. الفيومي، أحمد بن محمد. (الطبعة الثانية). المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (تحقيق عبد العظيم الشناوي، ج. 2، ص. 577). القاهرة: دار المعارف. (2).

وأما (المرأة) فمعناها أبينُ من أن يحتاج إلى تعريف، فهي -بداهةً- «أنثى الإنسان البالغة»، إلا أنّ هذا المعنى قد خضع في زماننا إلى التشكيك والتشغيب، فتراجع كثيرون عن الإقرار به تحت تأثير فكرة الجنس الاجتماعي (الجندر) التي بسطت سطوتها في كثير من المجتمعات الغربية انظر: Walsh, M. (2022). What Is a Woman?: One Man's Journey to Answer the Question of a Generation (1st ed.). New York: DW Books (3)، فهي فكرة تأبى إعطاء التوصيف الاجتماعي المسبق بناءً على الجنس البيولوجي، ما لم يكن ذلك بقرارٍ خاصٍّ من الفَرد، فالأنثى البيولوجية قد تختار أن تسمّى رجلًا أو شيئًا آخر، وتعامل على هذا الأساس، والذكر البيولوجي قد يختار أن يكون امرأةً، وعلى هذا فتكون المرأة هي الشخص الذي يعرّف نفسه بأنه امرأة! وهذا من ضروب السيولة التي أفرزتها الحداثة، والبحث فيه له مجال آخر، وتكمن صعوبته في أنه بحثٌ في المسلّمات الفطرية، ومناقشة في البدهيات الواضحات، وكما قيل: توضيح الواضحات من أصعب المهمّات.

وأما مصطلح (تمكين المرأة) باعتباره اسمًا عصريًّا، مركّبًا تركيبًا إضافيًّا، فسيأتي تعريفه الدقيق، لكن المقصود هنا بحث مفرداته. على أنّ هذا المصطلح قد قيل إنه نتاجُ ترجمة غير دقيقة للكلمة (Woman Empowerment)، وأنها ينبغي أن تترجم إلى (تقوية المرأة)، لأن ما يقابل التمكين في الإنجليزية فهو (Enabling)، كما أشارت الباحثة كاميليا حلمي كما في ورقة قدمت في ورشة عمل دور المرأة في العمل الخيري والتطوعي: الكويت، 15-18 سبتمبر، 2012م، بعنوان: مفهوم مصطلح تمكين المرأة في منشئه. (4).
 

بين التمكين والمساواة: المؤثرات في صياغة المفهوم

كحال كثيرٍ من المفاهيم العصرية، خضع مفهوم (تمكين المرأة) لمؤثراتٍ كثيرة، وكانت هذه المؤثرات قد صنعت عقليةً تصوّرت مسبقًا وقوعَ التّهميش للمرأة والتمييزِ ضدّها، فجاءت فكرة التمكين والتقوية ردةَ فعلٍ لذلك التهميش والتمييز.

يضاف إلى ذلك أنَّ المُصطَلحاتِ العصريّةَ المتعلّقةَ بالمرأة، إنما تُصاغُ في بيئةٍ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ غربيّة، تضفي طابعها الخاص على المصطلحات ومضامينها، فإذا عمّمت على المستوى الدولي ظهرت وجوه كثيرة من التعارض بين تلك القيم والأيديولوجيات والمضامين الغربية وبين البيئات الاجتماعية والثقافية الخاصة للبلدان انظر: السيف، خالد بن عبد العزيز. (2016). إشكالية المصطلح النسوي.(ص 17-18) الطبعة الأولى. لندن. مركز تكوين. (5).

وقد برَزَ هذا المُصطلَح بلفظه وبمفهومِه العَصريّ في مؤتمر القاهرة للسكان والتنمية عام 1994م، ثم في مؤتمر بكّين عام 1995م انظر: المصدر السابق، (ص 30-31، 198). (6)، وإن كانت مضامينُه موجودةً بكثرة في الفِكر النِّسوي منذُ نشأته، وبالأخصّ في وثائق الأمم المتحدة، بدءًا بمؤتمر الأمَم المتّحدة للمرأة في مكسيكو سيتي عام 1975م، ثم لقاء مجموعة «التنمية البديلة بمشاركة المرأة من أجل عهدٍ جديد (DAWN)»، في مدينة بنغالور بالهند عام 1984م.

وقد عرّف معجم الإسكوا للمصطلحات الإحصائية التابع للأمم المتحدة (تمكين المرأة) بناء على منظمة العدل الدولية، بأنه: «العملية التي تكتسب النساء من خلالها وعيًا بشأن علاقاتِ السُّلطة غير المتكافئة، القائمة على أساس النوع الاجتماعي، ويحظى بصوت أعلى يخوّلها مواجهة عدم المساواة السائدة في المنزل ومكان العمل والمجتمع المحلي» الموقع الإلكتروني للأمم المتحدة: الإسكوا، معجم المصطلحات الإحصائية، مصطلح (تمكين المرأة). https://www.unescwa.org/ar/sd-glossary/تمكين-المرأة (7).

وجاء فيه أيضًا: «يتعلّق مفهوم تمكين المرأة بقدرة النساء والفتيات في اكتساب القوة والسيطرة على حياتهنّ. وهي تنطوي على زيادة الوعي، وبناء الثقة بالنفس، وتوسيع الخيارات، وزيادة الوصول إلى الموارد والإجراءات والتحكّم بها، من أجل تغيير الهياكل والمؤسسات التي تعزز وتديم التمييز وعدم المساواة بين الجنسين. ينبغي أن تشمل الإحصاءات الخاصة بتمكين النساء والفتيات الأبعاد التالية:

(أ) قدرات متساوية للنساء والرجال (مثل التعليم والصحة).

(ب) الوصول المتساوي إلى الموارد والفرص للنساء والرجال (مثل الأرض والعمالة والائتمان).

(ج) وكالة المرأة في استخدام هذه الحقوق والقدرات والموارد والفرص لاتخاذ خيارات استراتيجية وقرارات في جميع مجالات الحياة (مثل المشاركة السياسية وصنع القرار في المجتمعات واتخاذ القرارات داخل المنزل)» الموقع الإلكتروني للأمم المتحدة: الإسكوا، معجم المصطلحات الإحصائية، مصطلح (تمكين المرأة).https://www.unescwa.org/ar/sd-glossary/تمكين-المرأة-والفتيات (8).

وعرّفته الناشطة النِّسوية د. فايزة بن حديد بأنه: «وضع وتنفيذ سياساتٍ وسنُّ قوانينَ تفضي إلى التخلُّص من جميع أشكال التمييز ضد المرأة في كل مرحلة من مراحل حياتها، والممارساتِ التي تكرّسه، سواءٌ كانت اجتماعيّةً أو ثقافيّةً أو مؤسَّساتيّة» ابن حديد، فايزة. (ديسمبر 2015م). تحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين كل النساء والفتيات (ص 5)، مؤتمر المرأة العربية في الأجندة التنموية، جمهورية مصر العربية. (9).

وظاهرٌ من مفهوم تمكين المرأة أنه تشكَّل في ظِلِّ النظرةِ النِّسوية لعلاقةِ الصِّراع مع الرَّجُل، فالمُطالَب بالتّمكين هو الرَّجُل باعتباره النوع الذي يستأثر بالقدرة والتمكّن، والهدَف من التمكين إلغاء التمييز ضد المرأة من الرجل، وإلغاء التمييز كما هو ظاهر يهدف إلى تحقيق المساواة، والتي هي المساواة بين الجنسين. وبالتالي فهذا المصطلح هو فكرة متفرعة عن فكرة المساواة، وهي الغايةُ والباعث الأساس لفكرة تمكين المرأة.

كما أنّ تعريف الأمم المتحدة -والتي في ظلّ قراراتها- نشأ هذا المصطلح وترعرع، ينصّ على منع تأثير النوع الاجتماعي (الجندر) من التأثير على هذه المساواة، وذلك نظرًا لكون المجتمع هو الذي ميّز أدوار المرأة واختصاصاتِها عن الرجل.
 

المساواة بين الجنسين من منظور شرعي:

تشترك خِلقة الرجل والمرأة وتكوينهما الجسدي في غالب الأمور، فالأعضاء ووظائفها وطبيعة الجسد وحاجياته وغيرها من الأمور متشابهة بين الجنسين إلى حدٍّ كبير، إلا أن بين الجنسين اختلافاتٍ معروفةً لا تقتصِر على تلك الأعضاء الجنسية المتمايِزة وحسب، بل تتعداها إلى أمورٍ أخرى مثل حجم العظام وشكلها، وبناء البروتين في العضلات، ونسبة تخزين الدهون، ونمو الشَّعر على الجلد، وغيرها، ولا تزال الدراسات تكتشف أنواعًا دقيقةً من الاختلافات بينهما، وقد كشفت دراسة أجريت عام 2017م أنَّ بين جينات النوعين أكثر من 6500 اختلافًا Gershoni, M., & Pietrokovski, S. (2017). The landscape of sex-differential transcriptome and its consequent selection in human adults. BMC Biology, 15(1), 7. https://bmcbiol.biomedcentral.com/articles/10.1186/s12915-017-0352-z (10).

ولأنَّ الخالق سبحانه حكيمٌ في تشريعاته الذي شرعها في دين الإسلام، وتظهَرُ حكمته في وضع التشريع المناسب في المكان المناسب المحقِّق للغايات الحميدة، فقد جعل الأصل هو تماثل التشريعات بين النَّوعين كما أن الأصل هو تماثل الخِلقةِ بينهما، إلّا أنّ قدرَ اختلافِ الخِلقة فرضَ اختصاصاتٍ جسديةً واجتماعيةً ونفسيةً لكلٍّ من الجنسين ناسَبت وجودَ اختلافاتٍ واختصاصات في التشريعات والأحكام، ويلخّص ذلك قول الله تعالى على لسان امرأة عمران: وَلَيْسَ ‌الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى[آل عمران: 36].
 

القيم المعنوية في هوية الأنثى في الإسلام

خصائص الجِنسَين ضِمن النَّظرة الفِطرية والشَّرعيّة آيةٌ من آيات الله، كما قال تعالى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ ‌الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى[النجم: 45]، فكلّ خصيصةٍ في الرجل هي جزءٌ يحتاجُ إلى ما يقابله ويكمّله، فإذا به تلك الخصيصةُ المقابلة في الأنثى، والعكس كذلك، فهذا التقابل بين الخصائص يوجِد حاجةً فطريةً لدى كلٍّ من الجنسين ليتكمَّل بالآخر، بحيث يبقى في كلٍّ منهما نوعُ قلقٌ واضطرابٌ لا يهدأ حتى يطمئنّ بالآخر، فهو مائلٌ إليه بجبلّته وفطرته، وهذا ما عبّر عنه خالق الزوجين سبحانه بقوله: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ‌لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[الروم: 21].

ويشير إلى هذا المعنى الطاهر ابن عاشور بقوله: «هذه الآية كائنةٌ في خَلقِ جوهرِ الصِّنفَين من الإنسان: صنفِ الذَّكر، وصنفِ الأُنثى، وإيداعِ نظامِ الإقبال بينهما في جِبِلَّتِهما، وذلك من الذاتيات النسبية بين الصنفين» ابن عاشور، محمد الطاهر. (1997). التحرير والتنوير (الجزء 21، ص 71). تونس: دار سحنون. (11).

وعند النظر إلى الأنثى على وجه الخصوص، نجد أن خصائصها الجينيّة والخَلقيّة انعكست عليها من الناحية النفسيّة والاجتماعية، فاختصّت بمشاعرِ الرَّحمة والعاطِفة أكثرَ من الرَّجُل، بل حتى في صِغَرِها هي أكثرُ لطفًا من الصبيّ، ولذلك سمّاها النبي ﷺ بالمؤنسةِ الغالية، فقال: «لا تَكرَهوا البنات؛ فإنَّهنَّ المؤنسات الغاليات» رواه الإمام أحمد. المسند. ط. مؤسسة الرسالة، (28/ 601، رقم 17373). وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (7/ 627، رقم 3206). (12)

وهي بعد بلوغِها أحرى بمشاعر الأمومة واحتمالِ الصغار، وأولى بالاجتماع بهم واحتوائهم والقرار في البيت معهم، ولذلك أمرها الله تعالى بالقَرارِ فقال:وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى[الأحزاب: 33]، وهذا الأَمرُ وإن توجه ابتداءً لأمهات المؤمنين، إلا أنه يشمل سائر المؤمنات، وفي هذا يقول ابن كثير رحمه الله: «هذه آدابٌ أمرَ الله تعالى بها نساء النبي ﷺ، ونساءُ الأمّة تبع لهن في ذلك» ابن كثير، إسماعيل بن عمر. (1999).  تفسير القرآن العظيم (تحقيق سامي بن محمد سلامة، الطبعة 2، الجزء 6، ص 408). الرياض، المملكة العربية السعودية: دار طيبة للنشر والتوزيع. (13)

وفي المقابل فإن الرجل الذي لا يحمل مثل تلك الخصائص، هو أقدر فسيولوجيًّا ونفسيًّا على مكابدة المهامِّ الشّاقّة، ومواجهة معتَرَكِ الحياة في الخارِج، ليوفِّر للأُسرَةِ البيتَ الذي تحتاجُه، ويحمل إليه ما يلزمه من الطعام والنفقات الحاجيّة الأخرى، ويوفِّر له الحماية والأمان من المخاطر المحتملة.

والله تعالى في تقسيمه لهذه الأدوار عليمٌ حكيم، وقد وضع القيادة في يد الأقدر عليها من الناحية الجسدية والنفسية والعقلية، فكما جعل لطالوتَ السيادةَ على بني إسرائيل بما زاده من البَسطةِ في العلم والجسم، فقال جلّ وعلا: قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[البقرة: 247]، فكذلك قد جعل السيادة في مؤسسة الأسرة المصغرة للرجل الذي هو من حيث الجنس له فضلُ العقل والجسم، وهذه السيادة المستندة إلى خصائصه الفسيولوجية والنفسية والاجتماعية مركّبةٌ من ثنائية: المسؤوليّات والصّلاحيّات، واللَّذان هما أمران متلازمان في كل إدارةٍ أو قيادة لأي مؤسسة، فالذي يكلَّفُ بالمهامّ، يعطى ما يخوِّله أداءَ ذلك من سيادةٍ وصلاحيّة، ومن هُنا قال سبحانه: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ[النساء: 34].

وتوزيع الأدوار هذا إنّما تُفهَم معقوليّته وحكمته في ضوء فهم التركيب الرُّوحيِّ والجَسَديّ للإنسان، والذي يعطي القيمةَ والمعنى لحياته، ويُبرز قيم العفة والستر والطُّمأنينة والحنان والمودّة، والسَّكَن النَّفسي والرحمة والعاطفة واجتماع الأسرة، مع الإقرار بالاختلافات الخلقية بين الجنسين.
 

المادّية الغربية، ووأد الأنثى:

مع ما سبق من بيان حكمة الإسلام في توزيع الأدوار، إلا أنّ التصور المادّيَّ ما-بعدَ-الحداثيّ للإنسان، والذي هو ثمرةٌ للّادينيّة الغربيّة، ينظرُ إلى تلك القيم والمعاني العاطفية الأنثوية نظرةَ تهميش على حسابِ قِيمةِ العَمَل الوظيفي والإنتاج والمادّة واللَّذَة والاستهلاك، ولذلك يرى في قرار المرأة في بيتها لاحتواء الأسرة والأبناء وتحقيق الستر والسكينة للبيت انتقاصًا من قدرها، لأنه يعُدُّ معايير السوق هي الأساسَ في تقدير قيمة الفرد في المجتمع على خلاف القيم الأنثوية، فالأيديولوجية المادية تحكم المشهد، وتصوغُ موازينه الجائرة.

ولذلك لا نجِدُ في القِيَم الغربيّةِ - مثلًا - الدَّعوةَ إلى المُساواةِ بين الغني والفقير، ولا بين وظائف الأفراد في المؤسسات، بل ولا نجد مواساةَ الفقيرِ والضعيفِ من ضمن المعايير الإلزامية والحقوق المفروضة، لأن تلك المساواة أو حتى المواساة تنافيان قيم السوق الرأسمالية وطبقيّته القاسية، والتي لا تعي الرحمةَ ولا العطفَ في ظلّ ماديتها.

وفي ضوء هذه الماديّة نفسها، تنظر هذه المؤسسة إلى تلك الأنُوثَة نظرةَ ازدراء، لأنّ كل تلك المعاني الإنسانية الفطرية التي تحملها الأنوثة، لا قيمة لها في الميزان المادّي، ومن هنا فحتى تنجح الأنثى وتكسِبَ قيمةً اجتماعيّة، عليها أن تكون مثلَ الذكر في إنتاجيّته وجمعِهِ للمال وقيادتِه للمناصب ومشاركته في الأعمال العامّة، وإلا فهي ناقصة دونيّة الرتبة.

والحاصلُ أنّ المادّيةَ اللّاإنسانيةَ تُرجِّح كفة الخصائص الذكورية، وتزدري الخصائص الأنثوية، فتسعى في وأدِ الأنوثة ودفنِها في نفس المرأة، ومن تأمَّل ثمراتِها وجدَها تصُبُّ في خدمة عالم الأعمال والإنتاج بوضوح، فبمنافسَةِ المرأة للرجل، تكثر الأيدي العاملة، مما يقلّل كلفتها ويخفض أجورها، ويزداد الاستهلاك بخروج الجنسين إلى العمل، بل تصير المرأة نفسُها سلعةً للتسويقِ والتَّرويج، بتقديمِ مظهرِها عنصُرًا جاذبًا في الإعلانات أو الفندقَة والضِّيافة وأقسامِ الاستقبال، وهذا كُلُّه على حساب القيم الشرعية والفطرية والأسرية.

وهكذا تلجئ الماديةُ الأنثى إلى الأفكار النسوية بجميع مفرداتها، وهكذا حال الإنسان عندما يولّي ربّه ظهره: يَفقد الإنسانَ قبل كلّ شيء، ليتحوّلَ إلى آلةٍ للإنتاج، وينسلخَ من روحه ليصير جسدًا بلا روح، ويبدأَ يحتقر ذاته وخصائصه الإنسانية، ويقودَ حملةً على نفسه يستطيعُ بدهائه أن يُلبِسَها لَبوس المدافعة عن حقوقه، فتحارب الأنثى أنوثتها، تحت شعار حقوق الأنثى!
 

النظرة الجاهلية للأنثى في صورة عصرية:

كان الفكر الجاهلي قبل الإسلام يزدري الأنثى، حيث كان الكفرة ينظرون إليها نظرةً مادية، فلا يجدون في البنت التي تولَد لهم غَناءً في الدُّنيا؛ لأنها يُنفَق عليها، ولا تَرُدُّ لهم ذلك إذا فارقت الأسرةَ إلى بيت زوجها، بل يصير نفعُها لزوجها وأبنائها خدمةً ورعايةً، ولذلك كان كثيرٌ منهم يئِدونها ويتخلّصون منها.

وفي ذلك نزل قوله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا[الإسراء: 31]. روى ابن أبي حاتم عن قتادة رحمه الله أنه قال في تفسير الآية: «كان أهل الجاهلية يقتلون البنات خشية الفاقة، فوعظهم الله في ذلك وأخبرهم أنّ رزقَهُم ورزقَ أولادِهم على الله»  ابن أبي حاتم، عبد الرحمن بن محمد. (1998). تفسير القرآن العظيم (تحقيق أسعد محمد الطيب، ج. 7، ص. 2328، رقم 13264). مكتبة نزار مصطفى الباز. (14)

وكذلك قوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 140]، يقول الثعلبي رحمه الله في تفسيره: «نزلت في ربيعة ومُضر وفي العرب الذين يدفنون بناتهم أحياء مخافة السَّبي والفَقر، إلّا ما كان من بني كنانة فإنّهم كانوا لا يفعلون ذلك» الثعلبي، أحمد بن محمد. (2002). الكشف والبيان عن تفسير القرآن (تحقيق الإمام أبي محمد بن عاشور، مراجعة وتدقيق نظير الساعدي، ج. 4، ص. 196). دار إحياء التراث العربي. (15)

وقد جاء الإسلام ليمحوَ هذه النظرة من أصلها، فنهى عن كراهية البنات، ورقَّق القلوب عليهن بوصفهنّ بالمؤنسات الغاليات فقال ﷺ: «لا تكرهوا البنات؛ فإنَّهنَّ المؤنسات الغاليات»  سبق تخريجه. (16)

 ورتَّب الأجر الأُخرويَّ العظيمَ من الله على تربيتهِنّ وإعالتهنّ، فقال ﷺ: «مَن عالَ جاريتينِ حتى تبلُغا، جاء يومَ القيامة أنا وهو كهاتين» وضمَّ أصابعه. مسلم بن الحجاج، أبو الحسن القشيري النيسابوري. (بدون تاريخ). المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله ﷺ= صحيح مسلم (تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، الجزء 4، ص 2027، برقم 2631). بيروت: دار إحياء التراث العربي. (17)

ووصّى الرجُل بالمرأة على وجه العموم فقال: «استوصوا بالنساء خيرا» المصدر السابق. (الجزء 2، ص 1091، برقم 1468). (18).

والذي نراه اليوم من وأد الأنوثة لأجل النظرة المادّية، شبيه بما كان في الجاهلية، فقد ازدرى أولئك أنوثتها فوأدوها حية، وازدرى الفكر النسوي أنوثتها فاشترط عليها معايير الرجل، وبين الجاهلية وما بعد الحداثة يظهر جمال الإسلام الذي يريدها كما هي، لأن خالقها هو الأعلم بها.
 

كيف ضبطت شريعة الإسلام خصائص الجنسين؟

جاء تشريع الربّ الحكيم ليضبط خصائص الجنسين ويحافظ على تمايزهما في تلك الخصائص، ضمانًا لبقاء الاتزان في الحياة، ويضبط تبعًا لذلك التشريعات المتماثلة والمختلفة بينهما، ويمكن إجمال ذلك في بنود:

1- لا يجوز تشبُّه أحدِ الجنسَين بالآخَر: فالنبيُّ ﷺ «لعنَ المتشبِّهين من الرِّجال بالنِّساء، والمتشبِّهات من النِّساء بالرِّجال»، البخاري، محمد بن إسماعيل أبو عبد الله. (1422هـ). الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله ﷺ وسننه وأيامه = صحيح البخاري (تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر، الطبعة الأولى، الجزء 7، ص 159، رقم 5885). بيروت: دار طوق النجاة.   (19)

2- لا يجوز تمنِّي أحدِ الجِنسَين خصائصَ الآخَر والتطلُّعَ إليها. وفي هذا يقولُ الله تعالى موجّهًا الخطاب إلى الرِّجال والنِّساء:وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [النساء: 32].

3- الأصلُ في التشريعات تماثلُ الجِنسين، فكلُّ ما يجب للذكور يجب للإناث، وما يجوز لهم يجوز لهنّ ولا فَرق، إلا بدليل يدل على التفريق.

وقد سُئِلَ النبيُّ ﷺ عن الرجل يجد البلل ولا يذكُر احتلاما؟ فقال: «يغتسِل»، وعن الرجل يرى أنه قد احتلم ولم يجد البلل؟ فقال: «لا غُسلَ عليه»، فقالت أم سُلَيم: يا رسول الله! المرأة ترى ذلك أعلَيها غُسل؟ قال: «نعم، إنَّما النِّساءُ شقائقُ الرِّجال» أبو داود، سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السِّجِستاني. (2009). السنن (تحقيق شعيب الأرنؤوط، الطبعة الأولى، الجزء 1، ص 171، رقم 236). بيروت: دار الرسالة العالمية. و: الترمذي، محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك. (1998). الجامع الكبير (تحقيق بشار عواد معروف، الجزء 1، ص 173، رقم 113). بيروت: دار الغرب الإسلامي. وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (6/ 860، رقم 2863). (20).

ولذلك فالأصل في خطابِ أحد الجنسين -والغالبُ توجيهُ الخطاب للرجل- دخول الجنس الآخر فيه بالتضمّن أو بالتغليب انظر: الطوفي، سليمان بن عبد القوي. (1987). شرح مختصر الروضة (تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، ج2، ص522). بيروت: مؤسسة الرسالة. ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم. (1995). مجموع الفتاوى (تحقيق عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، ج. 6، ص. 437-438). المدينة النبوية: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف. (21)، ولذلك كان الأعمُّ الأغلب في خطاب الوحي تساويَ الجنسين.

فالرَّجُل والمرأةُ مأمورانِ بتصديقِ الأخبارِ ومسائلِ الاعتقاد على حدٍّ سواء دون تفريق، ومأموران في الأحكام العمليّة بأركان الإسلام الخمسة: الشهادتين والصلوات الخمس، والزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت.

ويشرع لهما على السواء فعل النوافل المستحبة كذكر الله تعالى والدعوةِ إليه والبرِّ والإحسان والصلة، وهما مأمورانِ بالعدل والصدق والأمانة وسائر الأخلاق الحميدة.

وهما متساويان أيضًا في حصول الأجر والثواب من غير فرق، كما قال تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران: 195]، وقال سبحانه: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا[الأحزاب: 35].

ويستويان في نهيِهِما عن جُملة المحرمات والكبائر، كالشِّرك بالله والسِّحر وقتلِ النفس التي حرم الله إلا بالحقّ والرّبا والزّنا وأكل الخنزير وشُرب الخمر وغيرها من المحرمات.

وسوّى الشرع بينهما في المعاملات المالية فالمرأةُ كالرجل في صحة البيع والشراء وسائر المعاملات والتعاقدات، تبرم وتفسخ وتشترط وتهب وتتصدق، بكامل حريتها في مالها، فهي جائزة التصرف والتبرع ولها ذمّةٌ ماليةٌ مستقلّةٌ ما دامت حرة بالغة عاقلة رشيدة، ولا تفتقر إلى ولاية الرجل في شيء من ذلك.

وهذه الأمور الكُلّيّة تتضمَّنُ جميعَ العقيدة، وجُلّ الشريعة.

4- فرّق الشَّارع الحكيم بينَ الرّجلِ والمرأة في جملة من الأحكام الشرعية الجزئية، والتي هي معلّلة بحِكَمٍ وغِاياتٍ، تتبعُ الفروقَ المُحَدَّدة في الخِلقَة والتَّكوين الجَسَديِّ والنَّفسِيّ والاجتماعيّ.

5- التفريقُ بين الرَّجُل والمرأة يُفضي إلى توزيع بعضِ الأدوار توزيعًا مبنيًّا على العدالة، لا على المساواة المُطلقَة، إذ المُساواةُ بين المختلِفَات جَورٌ وظُلم، كما قد يُساوي الأبُ بينَ أبنائه في النّفقة مع اختلافِهم في الاحتياجات، بسبب مَرض بعضِهم أو سَفَره أو دِراستِه أو تعرّضه لظرفٍ خاصّ، فيكون قد ظلم بهذه المساواة، وكان الواجب عليه العَدالة، والتي هي إعطاءُ كلّ ذي حقٍّ حقّه، فالله تعالى قد يفرّق بين أحكام عباده عدلًا، منه، وهي عدالةٌ ربانية حكيمَة تفضي إلى التكامُل لا إلى التَّنازع.

وقانونُ الحياة وسنّة الخالق مبنيّةٌ على التّفريق بحسَب الحِكمة، لا على المساواة المطلَقة، فاللهُ خلقَ الحرَّ والبَرد، واللَّيلَ والنَّهار، والظُّلمةَ والنُّور، والقساوةَ واللِّين، والماءَ والنَّار، والسَّهلَ والجَبَل، والحُلوَ والمُرّ، والطُّولَ والقِصَر، والكِبَر والصِّغَر، والقوةَ والضعف، وغيرها من الأضداد والمتقابِلات التي تتحقّق بها حكمةُ الوجود وانتظامُ المصالح، ولو استوَت مظاهر الحياة على وصف واحدٍ لما استقامت.
 

 6- من أهم الفروق في التشريعات بين الرجل والمَرأة:

1- بعضُ العبادات، فعلى الرجل حضور الجُمَع والجَماعات، وتسقُط الصلاةُ مطلقًا عن المرأة في حال الحيض والنفاس، ويسقط عنها الصَّوم أداءً لا قضاءً، ويجب على الرجال الجهاد في سبيل الله، وليس على النساءِ ذلك.

2- العَورة، فعورة المرأة تختلف عن عورة الرجل، وعلى كلٍّ منهما سترها، وكذلك فرض على المرأة الحجاب، ووجب عليها من الستر والصيانة ما لا يجب على الرجل، وليسَ لها السفرُ بلا محرم.

3- نوعُ اللِّبَاس، فللمرأةِ لُبس الذَّهب والحرير، وليس للرجل ذلك من حيث الأصل.

4- كثيرٌ من أحكام الأسرة، فالرجُلُ وليٌّ على المرأة في التزويج عند جُمهور الفقهاء، وله القوامة والسيادة عليها داخل الأسرة، وبيده الطلاق والرجعة، وعليه أن ينفق عليها ويحميها، وعليها طاعته وحفظ غيبته، فبينهما حقوق وواجبات متكافئة في الأصل، لكنّ الرجل يفوقُها في ذلك بدرجة، كما قال تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ[البقرة: 228].

5- وِلايةُ الحُكم، فهيَ خاصّةٌ بالرّجُل دونَ المَرأة، قال ﷺ: «لَن يُفلِحَ قومٌ ولَّوا أمرَهُم امرأة» البخاري، محمد بن إسماعيل أبو عبد الله. (1422هـ). الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله ﷺ وسننه وأيامه = صحيح البخاري (تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر، الطبعة الأولى، الجزء 6، ص 8، رقم 4425). بيروت: دار طوق النجاة. (22)، وكذلك القضاء عند جمهور الفقهاء.

6- أحكامُ الشَّهادة، فجعلَ الشارعُ شهادةَ الرَّجُل بشهادةِ امرأتَين، وقبل شهادتها وحدها في بعض الحالات التي تختصّ بالاطلاع عليها، ولم يقبل شهادتها مطلقًا في قضايا .

7- بعضُ الواجبات والحقوق المالية الاجتماعية، فالرجل يشارك في دية القاتل إذا كان من عصبته الذكور وهم المسمَّون بالعاقلة، ولا تُشاركُ المرأة، والرَّجُل يأخذ ضِعفَ المَرأة في المِيراث حالَ تساوي الجِهة والطَّبقة في كثيرٍ من الحالات، فالأخُ الشقيق أو لأبٍ إذا ورثَ مع أخت مثله، والابن إذا ورث مع بنت، كان للرجل مثل حظ الأنثيين، بخلاف الأب مع الأم، والأخ لأم مع الأخت لأم.
 

خاتمة: التمكين الشرعي للمرأة

في الختام، يظهر أن موضوع تمكين المرأة ليس مجرد مصطلح يُستخدم في النقاشات الفكرية والاجتماعية ويؤخذ معناه من بداهة لفظه، بل هو قضية تتطلب فحصًا دقيقًا وتحليلاً عميقًا، فالتمكين مطلوب لتحقيق ذات المرأة وهويتها والتي من ضمنها خصائصها الأنثوية، ولا يجوز بحال أن يكون التمكين نزعًا لهويتها وتوجّهًا بها إلى قِبلة خصائص الرجُل. ولذلك فإن الاعتصام بالضوابط الشرعية هو الضمان الأكبر للحفاظ على سلامة الفطرة والأمان المجتمعي والنفسي، وينبغي بالتالي أن تُجعل الشريعة الربانية دليلًا لنا في صياغة سياسات تمكين المرأة، حتى نتجنب التبعات السلبية الناتجة عن التصورات المادّية أو الفلسفات الغربية غير المتوافقة مع الفطرة.

 

المراجع:

1- ابن أبي حاتم، عبد الرحمن بن محمد. (1998). تفسير القرآن العظيم (تحقيق أسعد محمد الطيب). مكتبة نزار مصطفى الباز.

2-  ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم. (1995). مجموع الفتاوى (تحقيق عبد الرحمن بن محمد بن قاسم). المدينة النبوية: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.

3-  ابن حديد، فايزة. (ديسمبر 2015م). تحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين كل النساء والفتيات، مؤتمر المرأة العربية في الأجندة التنموية، جمهورية مصر العربية.

4-  ابن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني. (2001). مسند الإمام أحمد بن حنبل (تحقيق شعيب الأرنؤوط، عادل مرشد، وآخرون؛ إشراف د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، الطبعة الأولى). بيروت: مؤسسة الرسالة.

5-  ابن عاشور، محمد الطاهر. (1997). التحرير والتنوير. تونس: دار سحنون.

6-  ابن كثير، إسماعيل بن عمر. (1999).  تفسير القرآن العظيم (تحقيق سامي بن محمد سلامة). الرياض، المملكة العربية السعودية: دار طيبة للنشر والتوزيع.

7-  أبو داود، سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السِّجِستاني. (2009). السنن (تحقيق شعيب الأرنؤوط، الطبعة الأولى). بيروت: دار الرسالة العالمية.

8- الأزهري، محمد بن أحمد. (2001). تهذيب اللغة (تحقيق محمد عوض مرعب). بيروت: دار إحياء التراث العربي.

9- الألباني، أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين. (بدون تاريخ). سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها. الرياض: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع.

10- الألباني، محمد ناصر الدين. (1995-2002). سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها. الرياض: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع.

11- البخاري، محمد بن إسماعيل أبو عبدالله. (1422هـ). الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله ﷺ وسننه وأيامه = صحيح البخاري (تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر، الطبعة الأولى). بيروت: دار طوق النجاة.  

12- الترمذي، محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك. (1998). الجامع الكبير (تحقيق بشار عواد معروف). بيروت: دار الغرب الإسلامي.

13- الثعلبي، أحمد بن محمد. (2002). الكشف والبيان عن تفسير القرآن (تحقيق الإمام أبي محمد بن عاشور، مراجعة وتدقيق نظير الساعدي). دار إحياء التراث العربي.

14-  حلمي، كاميليا. (ديسمبر 2012) مفهوم مصطلح تمكين المرأة في منشئه. ورشة عمل دور المرأة في العمل الخيري والتطوعي، الكويت.

15- الزَّبيدي، محمّد بن محمّد الحسيني. (2001). تاج العروس من جواهر القاموس. مؤسسة الكويت للتقدم العلمي.

16- السيف، خالد بن عبد العزيز. (2016). إشكالية المصطلح النسوي. الطبعة الأولى. لندن. مركز تكوين.

17- الطوفي، سليمان بن عبد القوي. (1987). شرح مختصر الروضة (تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي). بيروت: مؤسسة الرسالة.

18- الفيومي، أحمد بن محمد. (الطبعة الثانية). المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (تحقيق عبد العظيم الشناوي). القاهرة: دار المعارف.

19- مسلم بن الحجاج، أبو الحسن القشيري النيسابوري. (بدون تاريخ). المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله ﷺ= صحيح مسلم (تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي). بيروت: دار إحياء التراث العربي.

20- المطرزي، ناصر بن عبد السيد. (دون تاريخ). المُغرِب في ترتيب المعرِب. بيروت: دار الكتاب العربي.

21- الإسكوا. (بدون تاريخ).  معجم المصطلحات الإحصائية: مصطلح "تمكين المرأة". الأمم المتحدة. متاح على:

https://www.unescwa.org/ar/sd-glossary/تمكين-المرأة

22-  الإسكوا. (بدون تاريخ).  معجم المصطلحات الإحصائية: مصطلح "تمكين المرأة والفتيات". الأمم المتحدة. متاح على:

https://www.unescwa.org/ar/sd-glossary/تمكين-المرأة-والفتيات

23- Gershoni, M., & Pietrokovski, S. (2017). The landscape of sex-differential transcriptome and its consequent selection in human adults. BMC Biology, 15"1",

7. https://bmcbiol.biomedcentral.com/articles/10.1186/s12915-017-0352-z

24- Walsh, M. (2022). What Is a Woman?: One Man's Journey to Answer the Question of a Generation (1st ed.). New York: DW Books 

شارك المحتوى: