عنوان الخطبة: حُسن الظن بالله
عناصر الخطبة:
١- منزلة حُسن الظن بالله، وحُسن عاقبته.
٢- حُسن الظن بالله مبنيٌّ على صحة الاعتقاد وإحسان العمل.
٣- مِن صُوَر سوء الظن بالله.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله حقّ التقوى، وراقبوه في السر والنجوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
أيها المسلمون:
إنّ لربّنا جلّ وعلا أوفرَ المحامدِ وأكملَها، وأعلى أوصافِ المجدِ وأنبلَها، وأحسنَ الثناءاتِ الطيّباتِ وأجملَها.
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وإنّ مِن أعظمِ مقاماتِ الإيمانِ، وأرقى درجاتِ الإحسانِ، أنْ يعتقدَ العبدُ في ربِّه ما يليقُ به سبحانه مِن الكمالِ، فيُحسنَ الظنَّ به، ويملأَ قلبَه بحمدِه وتعظيمِه ومحبّتِه، وخشيةِ عقابِه والطَّمَعِ في فضلِه، فحُسنُ الظنِّ باللهِ شأنُ المؤمنينَ العارفين، وسوءُ الظنِّ بالله حالُ الكافرينَ المنافقين، كما قال تعالى: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا.
ومَن أحسَنَ ظنَّه باللهِ تعالى كانَ اللهُ له كما ظنّ، والعكسُ بالعكس، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي ﷺ: يقول الله تعالى: «أنا عِندَ ظنِّ عَبدِي بِـي».
فمَن ظنَّ باللهِ تعالى أنّه يَكفيهِ إذا صدَقَ التوكّلَ عليه كفاهُ اللهُ ولا بُدّ، ومَن ظنّ باللهِ أنّه يقبلُه إذا صَدَقَ التوبةَ إليه قَبِلَهُ اللهُ ولا بُدّ، ومَن ظنّ باللهِ أنّه يَشكرُ لهُ عملَه إذا أحسنَ عبادتَه، شَكَرَ اللهُ لهُ عملَه الحسَن ولا بُدّ.
وَإِنِّي لَأَرْجُو اللهَ حَتَّى كَأَنَّنِي * أَرَى بِجَمِيلِ الظَّنِّ مَا اللهُ صَانِعُ
وأمّا مَن ظنَّ باللهِ أنّه سبحانه يَخذُلُ مَن توكّلَ عليه، أو لا يَقبَلُ مَن تابَ إليه، أو لا يَتَقَبَّلُ عَمَلَ مَن أحسَنَ عبادتَه، فقد أساءَ الظنَّ بالله، وكانت عاقبتُه حينئذٍ أنْ يُوقِعَ اللهُ عليهِ ما ظنَّه به جزاءً وِفَاقًا.
ولذلك فإنّ حُسنَ الظنِّ باللهِ تعالى بابٌ للخيرِ العظيمِ، والفضلِ الجزيلِ، وبِقَدْرِ ما يُعطَى العبدُ مِن حُسنِ الظنِّ باللهِ، يُعطَى مِن رحمةِ اللهِ وإحسانِه، يقول عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رضي الله عنه: «وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، مَا أُعْطِيَ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، لَا يُحْسِنُ عَبْدٌ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الظَّنَّ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ظَنَّهُ؛ ذَلِكَ بِأَنَّ الْخَيْرَ فِي يَدِهِ».
ولذلك كان حُسنُ الظنِّ باللهِ مِن خيرِ ما يُختَمُ به للعبدِ قَبلَ أنْ يصيرَ إلى ربِّه، كما روى مسلمٌ عن جابرٍ رضي الله عنه، قال: سمعت النبيَّ ﷺ قبلَ وفاتِه بثلاثٍ يقول: «لا يَـمُوتَنَّ أحدُكم إلا وهو يُحْسِنُ باللهِ الظنّ».
إخوةَ الإسلام:
إنّ حُسنَ الظنِّ باللهِ مَبنيٌّ على أمرين: صحّةِ الاعتقادِ في الله، وإحسانِ العملِ في طاعتِه.
فأما صحّةُ الاعتقادِ، فإنّ مَن عَرَفَ اللهَ بأسمائِه وصفاتِه، وفضلِه وإنعامِه، ومُلكِه وتدبيرِه، وقدرتِه وعزّتِه، وأنّه وَسِعَ كلَّ شيءٍ رحمةً وعِلمًا، وأَحاطَ بكلِّ شيءٍ قُدرةً ومُلكًا، وأنّه إذا أراد شيئًا قالَ له كُن، فكان، حَسُنَ ظنُّه بِالله تعالى. ومَن ظنَّ أنّ شريعةَ اللهِ أحسنُ الشرائع، وحُكمَه أحسنُ الأحكام، حَسُنَ ظنُّه بِالله تعالى. ومَن اعتَقَدَ أنّ اللهَ لا يتعاظمُه شيءٌ أعطاه، بل هو الكريمُ الجوادُ، يَدُه مَلأَى لا يَغيضُها نفقة، سحّاءُ اللَّيلَ والنّهار، حَسُنَ ظنُّه بِالله تعالى. ومَن ظنَّ أنّ اللهَ مع ذلك عزيزٌ حكيم، لا يسوّي المتّقِي بالفاجِر، والمؤمنَ بالكافِر، فهُو شديدُ العِقَاب، وهُو الغفورُ الرّحيم، فَمَن عرفَ اللهَ بذلك حَسُنَ ظنُّه بِه سبحانه.
واسمَعْ ما روى الترمذيُّ عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال الله تبارك وتعالى: «يا ابنَ آدمَ! إنّك ما دعوتَني ورَجَوتَني غَفَرتُ لك على ما كان فِيكَ ولا أُبَالِـي، يا ابنَ آدم! لو بَلَغَت ذنوبُكَ عَنَانَ السماءِ ثمّ استغفرتَني غفرتُ لك، ولا أُبَالِـي، يا ابنَ آدمَ! إنّك لو أتيتَني بِقُرَابِ الأرضِ خطايا ثمّ لقيتَني لا تُشرِكْ بي شيئًا لأتيتُك بِقُرَابِـهَا مغفرة».
وأمّا إحسانُ العملِ في الطاعةِ، فإنّ مَن عرَف اللهَ تلكَ المعرفةَ أقبلَتْ نفسُه على الطّاعةِ، واجتهدَتْ في العبادةِ، طمَعًا في فضلِ اللهِ العظيمِ، وهربًا مِن عقابِه الأليم، كما قال الحسَنُ الـبَصري رحمه الله: «إنَّ المؤمنَ أحسَنَ الظنَّ باللهِ فأحسَنَ العَمَل، وإنَّ الفاجرَ أساءَ الظنَّ باللهِ فأساءَ العَمَل».
فليس مُحسِنًا الظنَّ بربِّه مَن عانَدَه في حُكمِه، وليس مُحسِنًا الظنَّ بربِّه من عَصَاهُ في أمرِه، وليس مُحسِنًا الظنَّ بربِّه من أعرضَ عن أسبابِ رحمتِه، بل هو مُغترٌّ بالأماني الكاذبةِ، والأوهامِ الخادعةِ، عافاني اللهُ وإيّاكم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعدَه، وبعد:
عباد الله: إنّ الشيطانَ حريصٌ على أن يُسِيءَ العبدُ ظنَّه بالله، ويمتلئ قلبُه بالشكِّ في قدرةِ اللهِ أو في رحمتِه أو في حكمتِه، فهُو جاهدٌ في إيقاعِه في ذلك على صُوَرٍ شَتّى.
فمِن سوءِ الظنّ باللهِ أن يعتقدَ العبدُ أنّه لا يَصِلُ إلى اللهِ إلا عن طريقِ مَلَكٍ أو نبيٍّ أو وليٍّ صالحٍ يَشفَعُ له عندَ الله، فيجعلَ اللهَ كحالِ بعضِ الزعماءِ الذين يُضطَرُّ مَن يَحتاجُ الوصولَ إليهم إلى وسائطَ وشُفَعَاءَ يؤثّرون عليهم، ويُوصِلُون حاجاتِ الناسِ إليهم، فأينَ سَعَةُ علمِ الله؟ وأين كمالُ مِلكِه وسلطانِه؟ وأين كمالُ رحمتِه وإحسانِه؟ وأين قُربُه سبحانهُ وإجابتُه لدُعاءِ عِبادِه؟
ومِن سُوءِ الظنِّ باللهِ نِسبةُ الولدِ إليه، وهُو خالقُ كلِّ شيءٍ، ولم يتّخِذْ صَاحِبةً ولا ولدًا.
ومِن سوءِ الظنِّ باللهِ، القَدحُ في شَرعِه وحًكمِه، والظنُّ بأنّ شريعتَه تَصلُحُ لزمانٍ دونَ زمان، وأنّ مصلحةَ النّاسِ في تعطيلِها والعملِ بغيرِها.
ومِن سوءِ الظنِّ باللهِ، الشكُّ في حِكمتِه وإنفاذِ وعدِه، والظنُّ بأنّه لا يَنصُرُ عبادَه المؤمنين، وأنّ الكافرينَ يُعجِزُونَه بِدُوَلِـهم ومُقَدّراتِـهم وطاقاتِـهم، فهذا ظنٌّ باطل، وحُسبانٌ فاسد: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ، فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ،لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
ومِن سوءِ الظنِّ باللهِ تعالى الظنُّ بأنّه سبحانه يومَ القيامةِ قد يُسَوِّي الكافرَ بالمؤمن، فيجعلُ المسلمَ مع النصرانيِّ واليهوديِّ والمشركِ في مَصِيرٍ واحدٍ، وهو القائل:وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ. فأحسنُوا الظنَّ باللهِ ربِّكم مع إحسانِ العمل، واحذروا سُوءَ الظنِّ باللهِ العزيزِ الرّحيم.
ثم صلُّوا وسلِّموا على السراج المنير، اللهم صلّ وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم إنا نسألك من الخير كلِّه، عاجله وآجله، ما عَلِمنَا منه وما لم نَعلَم، ونعوذ بك من الشرِّ كلِّه، عاجلِه وآجلِه، ما عَلِمنَا منه وما لم نَعلَم، ونسألك الجنةَ وما يقرّبُنا إليها من قولٍ وعمل، ونعوذُ بك من النارِ وما يقرّبُنا إليها من قولٍ وعمل. اللهم وفّق وليَّ أمرِنا لِمَا تُحِبُّ وترضى، وخُذ بناصيته للبِرِّ والتقوى. ربَّنا آتِنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنَا عذابَ النار.
عباد الله: اذكروا الله ذكرًا كثيرًا، وسبّحوه بكرةً وأصيلًا، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين.