خطبة (حق الله وحقوق الإنسان)

خطبة (حق الله وحقوق الإنسان)

عنوان الخطبة: حق الله وحقوق الإنسان

عناصر الخطبة:
١- الله سبحانه أحقّ بالمحبة من كل محبوب.
٢- بيان حال مَن يعظّمون حقوق الإنسان ويُهملون حق الله.
٣- أعظم الجرائم الكفر بالله.
٤- إنما خُلق الإنسان لتحقيق العبودية لله سبحانه.


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ وراقبُوه، وأطيعُوه ولا تَعصُوه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ‌حَقَّ ‌تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.

أيها المسلمون: ينالُ المرءُ محبةَ الخلقِ واحترامَهم بأحدِ أمرين:

أولهما: الإحسانُ إليهم، والتفضّلُ عليهم، فمن أهديتَه هديةً أو أسديتَ إليه معروفًا، حُزتَ منه احترامَه ومحبّتَه على قدرِ إحسانِك إليه.

وثانيهما: الاتصافُ بكريمِ الخصالِ، والتحلّي بجميلِ الشمائلِ، فالكاملُ في علومِه وقُدراتِه وأخلاقِه وسائرِ أوصافِه، يحبُّه كلُّ مَن يسمعُ به، ويحترمُه كلّ مَن يَعلَم بصفاتِه.

وإذا تأمّلنا في علاقتِنا باللهِ تعالى، نَجِدُ أنّ الرّبَّ سبحانه لا يقاربُه أحدٌ في كِلا الأمرين، فإحسانُه سبحانه إلينا يفوقُ كلَّ إحسان، هو خالقُنا، ورازقُنا، ومدبّرُ أمورِنا، لـمْ يَدَعْ شيئًا مِن مصالحِنا الضروريّةِ ولا الحاجِيّةِ ولا التكميليّةِ إلا وقد أغدقَ علينا منها ما لا نُحصيه، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ ‌الْفُلْكَ ‌لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ. وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ.

وأما كمالُه سبحانه فيفوقُ كلَّ كمال، وصفاتُه هي أعلى صفاتِ الجمالِ والجلال، فهو ربُّ العرشِ العظيم، الرحمنُ الرحيمُ، الوهّابُ الكريمُ، العفوُّ الغفّارُ، القويُّ القهّارُ، المستأثرُ بالحمدِ والمجدِ، المتفرّدُ بالجلالِ والإكرامِ، لا يُحصِي العبادُ عليه ثناءً، ولا يُحيطون بكمالِه عِلمًا.

فهو الجديرُ سبحانه أن يُحَبَّ فوقَ كلِّ محبوبٍ، ويُعظَّمَ فوق كلِّ مُعظَّم، فَيُشكرَ ولا يُكفَر، ويُطاعَ فلا يُعصى، ويُذكرَ فلا يُنسى، هذا حقُّه على عبادِه، ولا يعرفُ هذا الحقَّ لله إلا أهلُ العقولِ الرجيحة، والقلوبِ الصحيحة.

إخوةَ الإسلام: إنّ أسوأَ ما آلَ إليه حالُ النّاسِ اليومَ، نسيانُهم حقَّ ربِّهم عليهم، في مُقابِلِ تعظيمِهم لحقوقِ أنفسِهم، فترى الناسَ يلهجون دائمًا بحقوقِ الإنسانِ، واحترامِ الإنسانِ، ومحبّةِ الإنسان. ولا شكَّ أنَّ للإنسانِ حقوقًا أحقَّها اللهُ تعالى، الذي حُكمُه عدلٌ لا ظلمَ فيه، وقضاؤُه حكيمٌ لا عَبَثَ يعترِيه، لكنّ الغلوَّ في حقِّ الإنسانِ، مع مقابلةِ حقِّ اللهِ بالنسيانِ، هو عينُ الجحودِ والكفران.

لقد أُولِعَ الناسُ اليومَ باستحسانِ الحريةِ والكرامة، وإنّهما لَـمَطلَبَان لا غِنَى عنهما، لكنّ كثيرًا منهم يَخلِطُ في هذهِ المفاهيمِ بين الحريةِ التي حَفِظها الخالقُ للمخلوقِ حِينَ خَلَقَهُ حُرًّا لا يُستعبَد لِغَير خالقِه، وبين الحريةِ التي هي انحلالٌ عنِ العبوديةِ لله، ويَخلِطُون بين كرامةِ اللهِ لِبَنِي آدمَ التي قالَ فيها: ولَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وحَمَلْناهُمْ فِي البَرِّ والبَحْرِ ورَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا، والكرامةِ التي هي استكبارٌ عن العبوديةِ والاعترافِ بحقِّه جلَّ وعلا.

لقد جعل كثيرٌ من الناسِ في زمانِنا هذا حقَّ المخلوقِ أعظمَ مِن حقِّ الخالقِ، فتراهم يَعُدُّون إيذاءَ الإنسانِ جريمةً يُعَاقَبُ عليها، وهذا حقٌّ، لكنّهم في المقابِلِ لا يرون في سَبِّ خَالقِ الإنسانِ والطعن في دينه أيَّ جريمةٍ، بل هي حُرّيّةٌ مَكفُولة، لأنّ السابَّ والطّاعنَ في زعمِهم لم يتعدَّ على حقوقِ الآخَرِين!

ويَرَون أنّ مَنْعَ تأديةِ الحقوقِ الماليّةِ لإنسانٍ مثلًا يستَوجِبُ الـمُحاكمةَ لِيُعادَ الحقُّ لصاحبِه، لكنّ تركَ أداءِ حقِّ اللهِ بعبادتِه: حريّةٌ يجبُ ضمانُها وحمايتُها، ولا يحقُّ لأحدٍ التعكيرُ عليها!

ويَرَون أنّ اختلاسَ شيءٍ من الحقِّ العامِّ قضيةُ فسادٍ، وهذا حقٌّ، لكنّهم لا يَرَون في الكفرِ باللهِ والشركِ به واستِحلالِ المحرّماتِ شيئًا مِن الفسادِ، مع أنّه أكبرُ الفساد.

 ويَرَون أنّ حُسنَ الأخلاقِ في التعاملِ مع الإنسانِ أهمُّ مِن حُسنِ الخلُقِ مع اللهِ بِشُكرِه وطاعتِه، فلذلك قد يُفضِّلون كافرًا على مسلمٍ، لأنّهم رأَوا ذلك الكافرَ أكثرَ أدَبًا مِن المسلم، وقد يُفضِّلون الغربَ على المسلمين، لأنّ الغربَ أكثرُ اهتمامًا بحقوقِ الإنسان.

عبادَ الله:

لا أسوأَ ولا أقبحَ ممّن أعرضَ عن خالقِه وجَحَدَ حقَّه، فإنّ الكفرَ باللهِ أعظمُ الجرائمِ، وأفظعُ العظائمِ، كَيْفَ ‌تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.

بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَنا بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول قَولي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِه وصحبِه ومَن والاه، وبعد:

عبادَ الله:

إنّما خُلِقْنَا في هذهِ الدنيا لعبادةِ الله، وَمَا ‌خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، ولِأجلِ هذا نَزلتِ الرسالاتُ، وبُعثَ الأنبياءُ،وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ‌وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ.

وإنّ مِن الإغراقِ في الجهلِ أن يَظُنَّ الإنسانُ لِلَحْظَةٍ أنّ بِوُسعِه الإعراضَ عن حقِّ اللهِ والاستكبارَ عن الاعترافِ به! أيظنُّ الإنسانُ أنَّ اكتشافَه لِـمَجهولٍ أو اختراعَه لآلةٍ يُغنيه عن خالقِه؟ هل نَسِيَ ابنُ آدمَ عجزَه وضعفَه وفقرَه إلى اللهِ تعالى؟ أم نَسِيَ قُدرةَ اللهِ عليه، وإحاطتَه به؟ ألم يدرِ هذا الإنسانُ أنّ ما به من نِعمةٍ ورفاهيّةٍ وطِيبِ عَيشٍ فمن الله؟ ألم يعلم أنْ لو يشاءُ اللهُ لضَـيّق عليه معيشته ولَـحرمه تلك النِّعَم؟ أم نَسِيَ الإنسانُ الضعيفُ رجوعَه إلى الله، ووقوفَه بين يديهِ مَدِينًا مُحاسَبًا، وذليلًا خاضعًا؟ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى. أَنْ رَآهُ ‌اسْتَغْنَى. إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى.

إخوةَ الإسلام:

لا خَلاصَ للعبادِ، ولا مَنجَى لهم، إلا بِأَن يَستقِيمُوا على مُرادِ ربِّـهم، ويعرِفوا أنفسَهم بِضعفِها ونقصِها وفقرِها إلى خالقِها، ثم يعرفوا ربَّـهم بإحسانِه في أُعطِياتِه، وبِحُسنِه في صفاتِه، فيُدركوا حقَّه عليهم، ويَدينُوا بالعبوديةِ له عليهم، ثم يُقيمُوا معاييرَهم على هذهِ الحقيقةِ، فيُعظّمُوا ما عظّمَه اللهُ، ويُؤَدُّوا حقَّ الناسِ إليهم طاعةً للهِ ومُراقبةً له، لا كفرانًا لنعمتِه ومعاندةً له، فإذا فعلوا ذلك كان اللهُ وليًّا لهم وناصرًا، وكفى باللهِ وليًّا، وكفى باللهِ نصيرًا.

عبادَ الله: صلّوا وسلّموا على مَن أُمرتم بالصلاة عليه: اللهم صلّ وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم بِعِلمك الغيبَ وقُدرتِك على الخلقِ أَحْيِنَا ما علِمت الحياةَ خيرًا لنا، وتوفّنا إذا علِمت الوفاة خيرًا لنا، ونسألُك خشيتَك في الغَيب والشَّهادة، وكلمةَ الحق في الغضب والرِّضا، والقَصدَ في الفقر والغِنى، ونسألُك نعيمًا لا ينفَد، وقُرّةَ عينٍ لا تنقطع، ونسألك الرِّضا بعد القضاء، ونسألُك بَردَ العيشِ بعد الموت، ونسألُك لذّةَ النظرِ إلى وجهِك، والشوقَ إلى لقائِك، في غير ضرّاءَ مُضِرّة ولا فتنةٍ مُضِلّة، اللهم زيِّنَّا بِزينة الإيمان. ربَّنا آتِنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقِنا عذابَ النار.

عباد الله: اذكروا اللهَ ذكرًا كثيرًا، وسبّحوه بُكرةً وأصيلًا، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالَمين.

 

شارك المحتوى: