عنوان الخطبة: تجويع المؤمنين ومصير المجرمين
عناصر الخطبة:
١- تجويع المؤمنين سبيل قديم.
٢- حرمة النفوس في شرع الله.
٣- نصرة المسلمين واجبة.
٤- جزاء المجرمين يوم القيامة.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على أفضلِ الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، وراقبوه في السِّرِّ والنجوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
عباد الله:
ما أعظمَ عتابَ ربِّ العالمين لعبده يوم القيامة، عندما يقول لابن آدم: «يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي! قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟! قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟ يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي! قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟! قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي». رواه مسلم.
أكثرُ من مليونيْ مسلم، محاصَرونَ منذ سنين، ثم اجتمعَ عليهم منذ شهورٍ اليهودُ وأولياؤهم قتلًا وتهجيرًا وتجويعًا، فمن لم يمُت قَصفًا أو قَنصًا، ماتَ جُوعًا وعَطَشًا، يُنادُون إخوانهم في الدين أن يُطعموهم ويَسقوهم، ولكن لا مُجيب!
لقدْ فعلها اللِّئامُ من كفار قريش يومًا، عندما أرادوا في السنة السابعة من البِعثة أن يقتلوا رسولَ الله ﷺ، فأبى بنو هاشمٍ وبنو المطَّلِب ذلك، فعقدَ كفارُ قريشٍ عَقْدًا وكتبوا به وثيقةً وعلَّقوها في جوف الكعبة أن يقاطعوا بني هاشم وبني المطَّلِب، ولا يناكِحُوهم، ولا يُبايعوهم، ولا يُجالسوهم، ولا يُخالطوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلِّموهم، حتى يُسْلِموا إليهم رسولَ الله ﷺ للقتل، فانحاز بنو هاشم وبنو المطَّلِب مؤمنُهم وكافرُهم -إلا أبا لهب- إلى شِعْب أبي طالب، واشتدَّ الحصار وقَطعت قريشٌ عنهمُ الطعام، حتى أكلَ النبيُّ ﷺ وأصحابُه ورقَ الشجر، وكانت تُسْمَع صرَخات الأطفال من الجوع، وظلّوا على ذلك ثلاثَ سنوات.
يقول سعدُ بن أبي وقاص رضي الله عنه: «رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الحُبْلَةِ، أَوِ الحَبَلَةِ، حَتَّى يَضَعَ أَحَدُنَا مَا تَضَعُ الشَّاةُ». رواه البخاري.
ويقول عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ رضي الله عنه: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقَ الشَّجَرِ حَتَّى قَرِحَتْ أَشْدَاقُنَا». رواه مسلم.
وبعد ثلاثِ سنواتٍ من الحِصار والجوع، أَذِن اللهُ بالفَرَج، فتحرّكت مروءةُ بعض أهل الجاهلية، وقام خمسةٌ من أشرافهم تَؤزّهم نَخوةُ العرب، وتحثُّهم صِلة الرَّحِم.
لقد كانت تلك الكلمةُ التي حركت ذوي المروءة من قريش مثلَ هشامِ بن عمرو والمُطْعِم بن عدي: "أَيْنَ أَنْتَ عَنْ إِخْوَانِكَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، جَوْعَى مَظْلُومِينَ مَحْصُورِينَ؟".
فقاموا يقولون لصناديدِ قريش ممن أعماهم الكفرُ عن مروءة العرب: يا أهل مكة أنأكل الطعام، ونلبَس الثياب، وبنو هاشم هَلْكى، لا يُباع ولا يُبتاع منهم؟! ثم نقضوا الصحيفة، وكان فرَجُ الله سبحانه وبحمده.
عباد الله:
لقد قال النبيُّ ﷺ: «عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا، إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ». رواه البخاري ومسلم.
حَبْسُ قِطَّة حتى الموت سببٌ لدخول النار، فكيف بحبسِ مئات الألوفِ من المسلمين المظلومينَ وقتلِهم جوعًا.
لقد دخل النبيُّ ﷺ يَوْمًا حَائِطًا مِنْ حِيطَانِ الْأَنْصَارِ فإذَا جَمَلٌ قَدْ أَتَاه، فَجَرْجَرَ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ ﷺ حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَمَسَحَ رَسُولُ اللهِ ﷺ سَرَاتَهُ وَذِفْرَاهُ فَسَكَنَ. فَقَالَ: «مَنْ صَاحِبُ الْجَمَلِ؟» فَجَاءَ فَتًى مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: هُوَ لِي يَا رَسُولَ الله! فَقَالَ: «أَمَا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَهَا اللهُ؟! إِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ». رواه أبو داود.
دابَّة عجماءُ تشكو الجوعَ إلى رسول الله ﷺ، فكيف بشِكاية مِئات الألوف من الأطفال والنساء؟
إن المجتمعَ الدَّوْليَّ الذي ظلَّ يفخرُ بقوانين حقوقِ الإنسان ومواثيق الأمم المتحدة واعتبارِ منع الطعام جريمةَ حَرْب، لا يلتفتُ اليومَ، لأن المقتول مسلم! ولا عَجَب، فالكافرون بعضهم أولياء بعض.
لكنَّ العجبَ من الأمة المسلمة التي ترى ما حلَّ بجزءٍ من جَسَدِها ولا تتألّمُ ولا تتحرَّك!
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى». رواه مسلم.
إنَّ الجوعَ بئسَ الضجيعُ، ولذا كان النبي ﷺ يتعوَّذ بالله منه فيقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ». رواه أبو داود
فكيف رضينا أن يبيتَ إخوانُنا وأطفالنا جِياعًا عُراة، ونحن نعلم بهم ونرى حالهم؟
ألم يقل النبي ﷺ: «مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ، وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ، وَهو يَعْلَمُ بِهِ»؟ رواه الطبراني.
كيف تركناهم للهَلاك والضَّيعة؟ والنبي ﷺ يقول: «الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ، يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ» رواه أبو داود.
لقد جمَعَوا بين أُخوة الإسلام وحقّ الجِوار، فأغلقنا أبوابنا في وجوههم، والنبي ﷺ يقول: «كَمْ مِنْ جَارٍ متعلِّقٍ بِجَارِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ، يَا رَبِّ! هَذَا أَغْلَقَ بَابَهُ دُونِي، فَمَنَعَ مَعْرُوفَهُ» رواه البخاري في الأدب المفرد.
لقد كان ابنُ عُمَرَ رضي الله عنه إذا ذبحَ شاةً قال لغلامه: «يَا غُلَامُ.. إِذَا فَرَغْتَ فَابْدَأْ بِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ». فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: الْيَهُودِيُّ أَصْلَحَكَ اللَّهُ؟ فقَالَ: «إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يوصي بالجار، حتى خَشِينا أو رُؤِينا أنه سَيُورِّثُه». رواه البخاري في الأدب المفرد.
عباد الله:
لقد وضع النبيُّ ﷺ ميثاقَ الأُخوَّة الإسلامية فقال: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يَرُدُّ مُشِدُّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ وَمُتَسَرِّيهِمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ». رواه أبو داود.
المسلمُ أخو المسلم، مهما كان لَونُه وعِرقُه ولُغَتُه، دماؤهم واحدة، ونُصرَتُهم واجبة، هم يدٌ واحدةٌ على من عاداهم، إنِ استنصروا إخوانَهم نَصَرُوهُم، وإن طلبوا عَوْنَهم أعانُوهم.
إنَّ رائحةَ الخُذلان منتنة، ستظلُّ وصْمَة عارٍ أبدَ الدهر، وإنذارَ عقوبة، جزاءً وفاقًا.
يقول النبي ﷺ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ». رواه مسلم.
ويقول النبي ﷺ:«أُمِرَ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ أَنْ يُضْرَبَ فِي قَبْرِهِ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُ وَيَدْعُو حَتَّى صَارَتْ جَلْدَةً وَاحِدَةً، فَجُلِدَ جَلْدَةً وَاحِدَةً، فَامْتَلَأَ قَبْرُهُ عَلَيْهِ نَارًا، فَلَمَّا ارْتَفَعَ عَنْهُ قَالَ: عَلَامَ جَلَدْتُمُونِي؟، قَالُوا: إِنَّكَ صَلَّيْتَ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَمَرَرْتَ عَلَى مَظْلُومٍ فَلَمْ تَنْصُرْهُ". أخرجه الطحاوي.
اللهم إنا نسألك لإخواننا كما سألك نبينا ﷺ لأصحابه فقال: «اللَّهُمَّ إنهم حُفاةٌ فاحْمِلْهُمْ، اللَّهُمَّ إنَّهُمْ عُراةٌ فاكسُهُمْ، اللَّهُمَّ إنَّهُمْ جِياعٌ فأَشْبِعْهُمْ». رواه أبو داود.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
عباد الله:
وما كان ربكَ نسيًّا، ولا تحسبنَّ الله غافلًا عمّا يعمل الظالمون.
سيأتي يومٌ يجازى فيه العِبادُ بما كسبوا، ولن يُفْلِت الظالمون من العقاب.
لقد فتنوا المؤمنين، وساموهم سوءَ العذاب، وقتلوهم حَرقًا وقصفًا وجوعًا، ولذا أعدَّ اللهُ لهم من أصناف العذاب أعظمَ وأشدَّ مما فعلوا، فيومئذ لا يعذِّب عذابَه أحد.
في جهنمَ الزَّقُّومُ والضّريع، لا يُسمِنُهم ولا يُغنيهم من جوع، سيَسقيهمُ الله الحميم، فيَصهَر به بطونَهم وجلودهم.
قال الله: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ.
وَقَالَ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ.
وقال سبحانه: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ.
هنالِكَ يرى المجرمونَ ثمرةَ إجرامهم، ويتجرَّعون مَرارةَ ظُلمهم جوعًا وطعامًا من النار، ولا يظلم ربُّك أحدًا.
اللهم اجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبَتنا في ديننا، ولا تسلِّط علينا من لا يرحمنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
اللهم انصُر عِبادَك المجاهِدين في سَبيلِك، ودَمِّر اليهودَ القتَلةَ الـمُجرِمين، ونجِّ برحماتك عبادَك المستضعفين.
اللهمَّ وفِّق وليَّ أمرنا لِما تُحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتهِ للبِرِّ والتَّقوى، ربَّنا آتِنا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخِرةِ حَسَنةً وقِنا عذَابَ النَّار.
عِبَادَ الله: اذكرُوا اللهَ ذِكرًا كثيرًا، وسبِّحوهُ بُكرةً وأصيلًا، وآخرُ دَعوانا أَنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.