عنوان الخطبة: أعياد الكافرين وهوية المسلمين
عناصر الخطبة:
١- دين الإسلام نعمة عظيمة وهو الحقّ وحده.
٢- تحريم مشابهة الكفار في دينهم وخصائصهم.
٣- تحريم مشاركة الكفار أعيادَهم.
٤- العواقب والمفاسد المترتبة على مشاركة الكفار في أعيادهم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا.
عبادَ الله:
إنّ نِعَمَ اللهِ علينا كثيرةٌ، وآلاءَه مُتَتَابعةٌ وَفِيرَة، وليس في نِعَمِه علينا أعظمُ مِن نعمةِ الهدايةِ إلى الإسلام، الذي به يُعرَف اللهُ ويُؤدَّى حقُّه، وبه تُنالُ سعادةُ الدنيا والآخرة.
وهذا الدينُ هو الحقُّ الـمُبين، الذي لا يُوصِلُ إلى اللهِ طريقٌ سِوَاه، فلا يَقبَلُ سبحانه وتعالى مِن أحدٍ دِينًا غيرَ الإسلام، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ في الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِين.
وبهذا الدّينِ بُعِثَ الأنبياءُ جميعًا، مِن لَّدُنْ آدمَ، ثم نوحٍ وإبراهيمَ وموسى وعيسى، وأنبياءَ كثيرينَ سِوَاهُم، حتى خَتَمَهُمُ اللهُ بِنبيِّنَا محمدٍ عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، كلُّهم -على اختلافِ تَشريعاتِـهِمُ العمَليّةِ- دَعَوا إلى دينٍ واحدٍ هُو دينُ اللهِ الذي وَصَفَهُ بقولِه تعالى: إنّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلَام.
وشريعةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم هي أكملُ الشرائع، والنّاسِخَةُ لِكُلِّ ما قَبْلَهَا، فَلَا يَقْبَلُ اللهُ مِن أحدٍ إيمانًا ولا عملًا إلا بالإقرارِ بنُبُوّتِه، والشهادةِ برسالتِه، واتباعِ شَريعتِه، وإلا فهُو مِن الكافرِين الخاسرِين.
ومِن كَمَالِ هذهِ الشريعةِ وحُسْنِها، أنّها حَفِظَتْ على المسلمين هُويَّتَهُم، وحَرَسَتْ عليهِم حدودَهُم، فَأَغْنَت المسلمَ بِتشريعاتٍ شَمِلَتْ جميعَ شؤونِ حياتِه، ونَـهَتْهُ عَنِ اتِّبَاعِ الكافرينَ ومُوَافقتِهِم، فَصِرَاطُ الإسلامِ صِرَاطٌ مستقيمٌ، مُخالفٌ لِسُبلِ المغضوبِ عليهِم والضّالّين.
قال الإمام الذَّهَبي رحمه الله: (قَد أوجَبَ اللهُ عليكَ -يا هذَا المسلم- أن تَدعُوَ اللهَ كُلَّ يومٍ وليلةٍ سبعَ عشرةَ مرّةً بالهدايةِ إلى الصراطِ المستقيمِ، صراطِ الّذين أَنْعَمَ اللهُ عليهِم، غيرِ المغضوبِ عليهِم ولا الضالّين، فكيفَ تَطِيبُ نفسُك بِالتّشبُّهِ بِقَومٍ هذهِ صِفَتُهُم، وهُم حَصَبُ جهنّم؟!).
وقد نَهَى النبيُّ ﷺ عنِ التشبُّهِ بالكفارِ عمومًا، في نَهيٍ شديدٍ، وتهديدٍ ووعيدٍ، فقال: (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَومٍ فَهُوَ مِنْهُم).
وكانَ ﷺ يأمُرُ بِمُخالفةِ الكفّارِ مِن أهلِ الكتابِ والمشركينَ في عباداتِهمْ وعاداتِهمُ الخاصّةِ، كما في قولِه ﷺ: (خَالِفُوا اليهودَ فإنّهم لا يُصَلّونَ في نِعَالِهم وَلَا في خِفَافِهِم)، ورَأَى على بعضِ أصحابِه ثوبَينِ مُعَصْفَرَيْنِ، فقال له ﷺ: (إنّ هذهِ مِن ثيابِ الكفّارِ فلا تَلْبَسْهَا)، وقال ﷺ: (خَالِفُوا المشركين، أَحْفُوا الشّوَارِبَ، وأَوْفُوا الِّلحَى)، وقال ﷺ: (إنّ اليهودَ والنصارى لا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُم)، حتى إنّ يهودَ المدينةِ شَعَرُوا باهتمامِ النبيِّ ﷺ بمُخالفتِهِم في عامّةِ أمورِهم فقالوا: (مَا يُريدُ هذا الرجُلُ أنْ يَدَعَ مِن أَمْرِنَا شيئًا إلَا خَالَفَنَا فيه!).
وهذا كلُّه في الحقيقةِ هو مِن مُفَاصَلَةِ دِينِ الإسلامِ للأديانِ الكُفريّة، وبَرَاءَتِه مِنها، وخُلوصِه من مُشابَـهتِها، وهُو ما أَمَرَ اللهُ تعالى رسولَه ﷺ بإعلانِه في قولِه: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ، وقولِه تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين.
عبادَ الله:
ومِن أَظْهَرِ خصائصِ الكفارِ التي يَحرُمُ على المسلمينَ مُشاركتُهُم أو مُوافقتُهُم فيها: أعيادُهُم ومُناسباتُهم الدينيّة، التي هي مَظاهِرُ لِعقائدِهِمُ الفاسِدة، وتَجلِّياتٌ لِكُفريّاتِهمُ الباطِلة.
وقد وَصَفَ اللهُ تعالى عبادَه المؤمنين بأنّهم لا يَشْهَدُون الباطلَ ولا يُشارِكون فيه، فقال جلَّ وعلا: والَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ، جاءَ عَنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما وبعضِ التابعينَ أنّهم فَسّرُوها بعدمِ شهودِ أعيادِ المشركين.
والمشاركةُ في أعيادِ الكفّار تَتَضَمّنُ إِقْرَارَهُم ومُوَافقتَهُم عليها، فكيفَ يُوَحِّدُ المسلمُ ربَّه ثمّ يُشاركُ في احتفالٍ يقومُ على الشركِ به؟ أَمْ كيفَ يُقِرُّ المسلمُ أنّ اللهَ تعالى لَـمْ يَلِدْ ولَـمْ يُولَدْ، ثمّ يُشاركُ في الاحتفالِ بعيدِ ميلادِ الربِّ، تعالى اللهُ عن إِفْكِ النصارى وتَقَدَّس.
ولا شكَّ أنَّ مُشاركةَ الفُسّاقِ في فِسقِهِم مِن الـمُنكرات، كمُشاركةِ السُّكارَى في مجالسِ الخمرِ، أو مُشاركةِ الزناةِ في بيوتِ الخَنَا، فكيفَ بمشاركةِ أهلِ الكفرِ في احتفالٍ شِركِيٍّ يقومُ على الزُّورِ والباطلِ، كدعوى أنّ للهِ وَلَدًا، وهُو مِن أَغْلَظِ الأقوالِ الكُفريّةِ وأكثرِها استِجلَابًا لِغَضَبِ البارِي جلَّ وعلا.
قال تعالى: وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَلَدًا * لَّقَدۡ جِئۡتُمۡ شَيۡـًٔا إِدًّا * تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرۡنَ مِنۡهُ وَتَنشَقُّ ٱلۡأَرۡضُ وَتَخِرُّ ٱلۡجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوۡاْ لِلرَّحۡمَٰنِ وَلَدًا * وَمَا يَنۢبَغِي لِلرَّحۡمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ إِلَّآ ءَاتِي ٱلرَّحۡمَٰنِ عَبۡدًا.
ولـمّا كانَ الجلوسُ مع المشركينَ حَالَ شِركِهِم وكُفرِهِم مِنَ الإقرارِ بذلِك ومُشابهتِهِم فيه، حذّرَ اللهُ تعالى المؤمنينَ مِنْهُ، فقال: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا.
ولذلك صحَّ عنِ الفاروقِ عمرَ رضي الله عنه أنّه قال: ((لَا تَدخُلُوا على المشركينَ في كَنَائِسِهِم يومَ عيدِهم؛ فإنّ السَّخْطَةَ تَنْزِلُ عليهِم)).
وكما تَحرُمُ مُشاركةُ المشركينَ في احتفالاتِهمُ الدينيةِ، تَحرُمُ تَهنئتُهُم بها، فإنّ التّهنِئَةَ مُشاركةٌ مَعْنَوِيّة، وإشعارٌ بالرّضَا والقَبُولِ لذلِك العِيد، ولِـهذا اتّفَقَتْ كَلِمَةُ علماءِ الإسلامِ على تحريمِهَا.
قالَ العلّامةُ ابنُ القيّمِ رحمه الله: «وأمّا التهنئةُ بِشعائرِ الكُفرِ الـمُخْتَصَّةِ به فحَرامٌ بالاتّفاق، مثلُ أنْ يُهَنِّئَهُمْ بِأعيادِهِم وصَومِهِم، فيقول: عِيدٌ مباركٌ عليك، أو تَـهنأُ بهذا العيدِ ونحوه، فهذا إنْ سَلِمَ قائلُه من الكُفرِ فهُو مِن المحرَّمات، وهو بمنزلةِ أنْ يُهَنّئَه بسجودِه للصّليب، بل ذلك أعظمُ إثمًا عندَ الله وأشدُّ مَقْتًا مِنَ التهنئةِ بِشُربِ الخمرِ وقتلِ النّفسِ وارتكابِ الفَرْجِ الحرامِ ونحوِه، وكثيرٌ مِـمّن لا قَدْرَ للدّينِ عِندَه يَقَعُ في ذلك ولا يَدرِي قُبحَ ما فَعَل، فَمَنْ هَنّأَ عَبدًا بمعصيةٍ أو بدعةٍ أو كفرٍ فقد تَعرَّضَ لِـمَقْتِ اللهِ وسَخَطِه».
باركَ اللهُ لي ولكُم في القرآنِ العظيم، ونفعَنا بما فيه مِن الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ قَولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكُم ولسائرِ المسلمينَ مِن كلِّ ذنبٍ فاستَغفِروه، إنّه هُو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
عبادَ الله:
لا شكّ أنّ الإسلامَ شَرَعَ التعايُشَ معَ أهلِ الذِّمَّةِ، وأباحَ مُعاملتَهُم بالبيعِ والشّراءِ، والبرِّ وحُسنِ الجِوارِ، وأَمَرَ بالقسطِ والعدلِ معهم، ونهى عن ظُلمِهِم والاعتداءِ عليهِم، بل غَلَّظَ حُكمَ قَتلِهِم وإخْفَارِ عَهْدِهِم، فقال تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، وقال ﷺ: (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَـمْ يَرَحْ رائحَةَ الجنّة).
ومِن الجائزِ أيضًا تهنئةُ الكافرِ بمناسبةٍ دُنيويّةٍ، كولادةِ ولدٍ له، أو نجاحٍ حَصَلَ له في تجارتِه أو دِراستِه، ونحوِ ذلك، بشرطِ أنْ يستعملَ المسلمُ عِبارةً لا تتضمّنُ باطلًا.
وأمّا تهنئةُ الكافرِ بمناسبةٍ دينيّةٍ، كعيدِ الكِرِيسمَاس، ورأسِ السنةِ الميلاديّةِ، أو مُشاركتُه فيه، فهُو مُحرّم، وفي ذلك مِن المفَاسِدِ الكثيرةِ ما يُبيّنُ حكمةَ الشرعِ في أحكامِه.
فمِن تلكَ المفاسِدِ: زَوَالُ نَكَارَةِ الـمُنكَرِ مِن القلب، وقد قال ﷺ: (مَن رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِه، فإِنْ لَـمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِه، فَإِنْ لَـمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِه، وذلِك أَضْعَفُ الإيمان)، فمَن لَـمْ يَجِدْ في قلبِه إنكارًا للكفرِ، فليسَ معهُ مِنَ الإيمانِ شيءٌ.
ومِن المفاسِدِ: ما في ذلِك مِن خَطَرٍ على عقيدةِ الولاءِ والبَرَاء، ولا شكّ أنّ الولاءَ والبَرَاءَ مِن أوجبِ الواجبات، وهُو أَوثَقُ عُرَى الإيمان.
ومِن المفاسِدِ: ما تُفضِي إليه المشاركة والتهنئة مِنَ التّطبيعِ معَ العقائدِ الكُفريّةِ، وزَوَالِ الفَوَارقِ بينَ الإسلامِ والكُفر، وذلك يُؤَدّي إلى ذَوَبَانِ هويّةِ المسلمِ، وانْصِهَارِهِ في مَبادئِ الأديانِ الأُخرى، حتّى لا يَعُودَ بينَه وبينَ النصرانيِّ واليهوديِّ فَرْقٌ، وهُو مِن المقاصِدِ الخبيثةِ، الّتي يسعى إليها أعداءُ الدينِ لَيلَ نَهَار.
يُرِيدُونَ أَن يُطۡفِـُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَيَأۡبَى ٱللَّهُ إِلَّآ أَن يُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ * هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ.
ثم صلّوا وسلِّموا على نبيّنا محمد، اللهم صلّ وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرِنا، وأصلِح لنا دُنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموتَ راحةً لنا من كل شرّ. اللهم وفّق وليّ أمرنا لِمَا تُحِبُّ وتَرضى، وخُذ بناصيته للبِرِّ والتقوى. ربَّنا آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرةِ حسنةً، وقِنَا عذابَ النّار.
عبادَ الله: اذكروا الله ذِكرًا كثيرًا، وسبّحوه بكرةً وأصيلًا، وآخِرُ دَعوانا أنِ الحمدُ لله رب العالمين.