خطبة (إحسان العبادة)

خطبة (إحسان العبادة)

عنوان الخطبة: إحسان العبادة

عناصر الخطبة:
١- إحسان العبادة هو غاية العابدين.
٢- المراد بإحسان العبادة.
٣- الإحسان في العبادة ثمرة من ثمرات معرفة الله عز وجلّ.
٤- أثر إحسان العبادة على العبد في الدنيا والآخرة.


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله حقّ التقوى، وراقِبوه في السرّ والنّجوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ‌حَقَّ ‌تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.

أيها المسلمون:

خلقَ اللهُ تعالى السماواتِ والأرضَ، والموتَ والحياةَ، لِيَبلُوَ عبادَه ويَمتَحِنَهُم: أيُّهم أحسنُ عمَلًا؟ كما قال جلّ وعلا:إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وقال: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ، فإحسانُ العبادةِ هو غايةُ العابدين، ومُنتهى أملِ السّالكين، وقد كانَ النبيُّ ﷺ يسألُ اللهَ حُسنَ العبادة، ويأمرُ أصحابَه بِسُؤَالِها، كما روى أحمدُ وأبو داودَ والنسائيُّ عن معاذِ بنِ جبل رضي الله عنه، أنّ النبي ﷺ أَخَذَ بيدِه يومًا، ثم قال: «يا مُعاذ! إنّي لأُحِبُّك». فقالَ لهُ معاذ: بِأبي أنتَ وأُمّي يا رسولَ الله، وأنا أُحِبُّك. قال: «أُوصِيكَ يا معاذ، لا تَدَعَنَّ في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ أن تقول: اللهمّ أعِنّي على ذِكرِك وشُكرِك وحُسنِ عبادتِك».

إخوةَ الإسلام:

إنّ إحسانَ العبادةِ هو أن يَعبُدَ العبدُ ربَّه على أكملِ الوجوهِ وأتمِّها وأعلاها، فهو أعلى مراتبِ الدّين، وأرقى منازلِ المؤمنين، ولذلك سألَ جبريلُ النبيَّ ﷺ عن ثلاثِ مراتِب، فسأله عن الإسلام، ثم سأله عن الإيمان، ثم سأله عن الإحسان، لأنّه أعلى هذه الثلاثة، والشاملُ لها جميعًا، وقد أجابَه النبيُّ ﷺ مبيِّنًا حقيقةَ الإحسان، بقولِه: «أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَراهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإنَّهُ يَراكَ». متفق عليه.

إنّ مرتبةَ الإحسانِ هي ثمرةُ معرفةِ اللهِ وكمالِ العلمِ واليقينِ به، فإنّ مَن عَرَفَ الربَّ جلّ وعلا بأسمائِه وصفاتِه معرفةً صادقةً، كانَ معهُ كأنّه يراه، فامتلأَ قلبُه بِتعظيمِه وحَمدِه ومحبّتِه، وانشرحَ صدرُه بالخضوعِ له والانقيادِ لِطاعتِه، فتكونُ صفاتُ الربِّ مشاهَدةً له، كأنّه قد رُفعَ الحِجابُ بينَه وبينَ ربِّه فصارَ يتنعّمُ بالنّظرِ إليه سبحانه، لا يرتضِي بذلك بدَلًا، ولا يبغِي عنه حِوَلًا.

وهذا العلمُ باللهِ لا يحصلُ للعبدِ إلا بأمورٍ أربعة:

أوّلُها: طلبُ العلمِ، بتدبُّرِ القرآنِ الكريمِ والتفقُّهِ في كلامِ النبيِّ ﷺ، وبفهمِ العلماءِ الرّاسخين، مِن الصّحابةِ والتّابعين وأئمةِ المسلمين.

وثانيها: تصفيةُ النفسِ وتطهيرُها وتزكيتُها مِن الآفاتِ والعُيوب، واجتنابُ المحرّماتِ التي تُغَشِّي القلبَ وتُفسِدُه.

وثالثُها: كثرةُ ذكرِ اللهِ تسبيحًا وتحميدًا وتكبيرًا وتهليلًا واستغفارًا، بحيثُ يبقى اللّسانُ رَطبًا به، لا يفتُرُ عنه ولا يمَلُّ منه.

ورابعُها: الاستعانةُ باللهِ والتوكّلُ عليه، وسؤالُه العلمَ النّافعَ الذي يُثمرُ في القلبِ تلك الثمارَ الحسَنة.

فَمَتى حرَصَ العبدُ على ذلك وفّقهُ اللهُ وملأَ قلبَه بالعلمِ به، وكان كمالُ علمِه باللهِ تعالى أساسًا لإحسانِ العبادة، فإنّ مَن كانَ باللهِ أعرَف، كانَ له أخْشَى، وكان أكثرَ محبّةً له وإجلالًا، فيكونُ أكثرَ إخلاصًا في عبادتِه له، وأحرصَ فيه على اتّباعِ رسولِه وموافقةِ مُرادِه، فيجمعُ بينَ تكميلِ باطِنه بالإخلاص، وتكميل ظاهرِه بالاتّباع.

جاء عن الفضيل بن عياض رحمه الله أنّه قال في قوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أخْلَصُه وأصْوَبُه، قيل له: ما أخْلَصُه وأَصْوَبُه؟ قال: إنّ العملَ إذا كان خالصًا ولم يكنْ صوابًا لم يُقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكنْ خالصًا لم يُقبل، حتّى يكونَ خالِصًا صوابًا، والخالِصُ: إذا كان للهِ، والصّوابُ: إذا كان على السنّة.

وأهلُ الإحسانِ هُمُ الذين يُكَمِّلُون أعمالَهم على أفضلِ ما يريدُ الله، يقومون بالواجبِ وبالمستحبِّ، ويتركون الحرامَ والمكروه، ويتورّعون عن المشتَبِهَات.

والإحسانُ يشملُ العباداتِ كلَّها، والمعاملاتِ كلَّها، كما قال ﷺ: «إنّ اللهَ كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيءٍ، فإذا قَتَلْتُم فأحسِنُوا القِتْلَة، وإذا ذَبَحتُم فأحسِنُوا الذَّبح، ولْيُحِدَّ أحدُكم شَفْرَتَه، فَلْيُرحْ ذبيحتَه». [أخرجه مسلم].

 بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ: إنّ الإحسانَ بركةٌ على صاحبِه في الدّنيا والآخرة، فالمحسنُون هُم أحسنُ النّاسِ دِينًا، كما قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا.

والمحسنون هُم أهلُ معيّةِ اللهِ تعالى، كما قالَ جلّ وعلا: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ.

ورحمةُ اللهِ سبحانه أقربُ ما تكونُ إلى أهلِ الإحسانِ، كما قالَ جلّ وعلا: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.

والمحسنون أهلُ محبّةِ اللهِ والقُربِ منه، كما قال: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.

ولأهلِ الإحسانِ في الجنّةِ كرامةُ اللهِ والنعيمُ المُقِيم، كما قالَ عزّ وجلّ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.

والزيادةُ هي النّظرُ إلى اللهِ تعالى في الجنّة، كما روى مسلم من حديث صهيبٍ رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «إذا دخلَ أهلُ الجنّةِ الجنّة، قال: يقولُ اللهُ تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدُكُم؟ فيقولون: ألمْ تُبَيِّضْ وجوهَنا؟ ألمْ تُدخِلْنا الجنةَ، وتُنَجِّنَا مِن النّار؟ قال: فيَكْشِفُ الحِجَابَ، فما أُعْطُوا شيئًا أحبَّ إليهم مِن النظرِ إلى ربِّهم عزَّ وجلّ» ثم تلا هذه الآية: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ.

قال ابنُ رجبٍ رحمه الله: «وهذا مناسبٌ لجعلِه جزاءً لأهلِ الإحسان، لأنّ الإحسانَ هو أن يَعبُدَ المؤمنُ ربَّه في الدنيا على وجهِ الحضورِ والمراقَبة، كأنّه يراه بِقلبِه وينظرُ إليه في حالِ عبادتِه، فكان جزاءُ ذلك النظرَ إلى اللهِ عيانًا في الآخرة». نسألُ اللهَ بِمَنِّه وكرمِه أن يجعلَنا مِن أهلِ هذه المقامات، وأصحابِ تلك الدرجاتِ، إنه خيرُ مسؤول.

ثمّ صلّوا وسلّموا على نبيّنا محمد. اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم أعنّا ولا تُعن علينا، وانصُرنا ولا تنصر علينا، وامكُر لنا ولا تمكُر علينا، واهدِنا ويسّر الـهُدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم وفّق وليّ أمرنا لِمَا تُحِبُّ وترضى، وخُذ بناصيته للبِرِّ والتقوى. ربَّنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

عباد الله: اذكروا الله ذكرا كثيرًا، وسبّحوه بكرة وأصيلًا، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله رب العالمين.

 

شارك المحتوى: