عنوان الخطبة: حق الله على عباده
عناصر الخطبة:
١- نِعم الله على عباده لا تُحصى.
٢- كمال الله وجماله وجلاله وعظمته.
٣- حقوق الله على عباده.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله حقّ التقوى، وراقبوه في السر والنجوى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
أيها المسلمون:
إنّ لِرَبِّنا سبحانه وتعالى علينا حقًّا عظيمًا، عَرَفَه الموفّقون وجَدُّوا في أدائِه ففازُوا، وغفَلَ عنه المفرِّطون وضيَّعوه فهلكُوا وخابُوا.
عبادَ الله! ربُّنا جلّ وعلا أوجدَنا مِن العدَم، وأسبغَ علينا أفضلَ النِّعم؛ أطعمَنا مِن جُوع، وآمنَنا مِن خَوف، عافانا مِن البلاء، وسلّمَنا من الضّرِّ واللَّأواء، وأغنانا مِن الفاقَة، وأغدقَ علينا أرزاقَه.
رزقَنا مِن الطيّبات، وأوْلانا مِن الهِبات، وخلَقنا أسوياءَ أصِحّاءَ وأحسنَنا تقويمًا، وجعل في أجسادِنا من الجوارحِ والأعضاءِ ما أبهرَ العقولَ تعقيدًا وتنظيمًا.
سخّرَ لنا الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَين، وَجعلَ لنا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ مُتَعاقِبَين، ونصبَ لنا الْجبَالَ فأرْساها، وفجّر الْمِيَاهَ وأجراها، وسَمَك السَّمَاءَ وأعلاها، وَوضع الأرضَ ودَحاها.
لستَ يا عبدَ الله تُحصي نِعَمَه، كيف وكلُّ نفَسٍ يدخل فيك، وشَربةِ ماءٍ تُرويك، ونبضةِ قلبٍ تجري فيك، وما يُصرَف عنك مِن الآفاتِ التي تعتريك، كلُّها نِعَمٌ مِن الكريم، لا تَشعرُ بها ولا تَعدُّها!
فسبحانه من ربٍّ رحيمٍ، ورزّاقٍ كريم، لا يستغني عبادُه طرفةَ عَينٍ عن رحمتِه، ولا عِوضَ لهم بشيءٍ عن فضلِه ومَبرّتِه.
هذا وهو سبحانه المتفرِّدُ بِنُعوتِ الجلال، وصفاتِ الجَمال، له الأسماءُ الحسنى والصفاتُ العُلا.
فإنّه سبحانه العزيزُ الجبّار، والمتكبِّرُ القهّار، وهو العليُّ الكبيرُ، المتينُ القديرُ، وهو الحفيظُ العليمُ، الجليلُ العظيمُ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم.
عَنَت لَهُ الْوُجُوه، وخشعتْ لَهُ الْأَصْوَات، وخضعتْ له الرِّقاب، وذلّت له الجبابِرَة. تفرّدَ بالسُّلطانِ والملَكوت، والعِزِّ والجبَروت، حيٌّ لا يموت، قيّومٌ لا يَنام، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى.
وهو سبحانه البَرُّ الرحيم، العفُوُّ الكريم، الشكورُ الحليم، هو المعطي الوهّاب، الغفورُ التوّاب؛ يغفرُ الذَّنب، ويقبلُ التَّوب، ويُقيلُ العثَرات، ويعفو عن السيّئات. الخيرُ كلُّه في يديه، والشرُّ ليس إليه. وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ.
عباد الله!
إنّ جلالَ ربِّنا وكمالَه أعظمُ مِن أن يُحصَى، وكرمَه وفضلَه أوسعُ مِن أن يُستَقْصَى. فأين نحنُ مِن حقِّه علينا؟
إنّ من حقِّ ربِّنا علينا أن نَدينَ له بِكمالِ المحبّةِ والتعظيمِ، والخضوعِ والتسليم، فنوقِّرَه ما استطعنا، ونَقْدُرَه حقَّ قَدْرِه ما وَسِعَنا.
وإنّه لمن العجَب أن يُقابِلَ الإنسانُ الضعيفُ الصغير، هذا الربَّ الجليلَ الكبير، بغير التعظيمِ والتوقير، ولقد عجِبَ أوّلُ الرُّسلِ نوحٌ عليه السلام مِن قومِه لأجلِ ذلك، فقال لهم: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا، قال ابنُ عبّاسٍ رضي الله عنه مفسِّرًا: «ما لكم لا تُعظِّمون اللهَ حقَّ تعظيمِه».
ومن حقِّ الربِّ على عبادِه أن يَشكُروا فضلَه عليهم، فيَدينوا بكمالِ المحبّةِ له، وتَـمامِ الثقةِ به، وحُسنِ الظنِّ بتقاديرِه، وقد وصفَ اللهُ أولياءَه مِن خلقِه بِكمالِ محبّتِهم له، مع محبّتِه سبحانه لهم، فقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّه، وقال في وصفهم: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
عباد الله:
إنّ مِن حقِّ الرّبِّ العظيمِ على عبادِه أن يُطيعوا أمرَه ولا يَعصُوا نهيَه، وأن يتَّقُوا غضبَه وعِقابَه، ويجعَلُوا مُرادَه سبحانَه فوقَ مُراداتِهم، فلا يُقدّمُوا محبوباتِهم على محبوباتِه، ولا يُعارِضوا بين رغباتِهم وما فرَضه عليهم من واجِباتِه، فلا يكفُروا بربِّهم استكبارًا عن أن يخضعُوا له، ولا يَخرجوا بِدعوى الحرّيةِ عن طاعتِه والانقيادِ له، فإنّ العبادَ لا غِنى لهم عن الله، ولا مَنجَى لهم منه إلا إليه، فبدؤُهم بإيجادِه، ومرجعُهم إليه.
وإنّ مِن حقِّه سبحانه على عبادِه أن يصدّقوا خبرَه، ويؤمنوا بالغيبِ الذي أبلغَه إليهم رسلُه، ولا يُعارِضوه بعقولٍ مَوهُومة، أو آراءٍ مَزعُومة، فإنّه سبحانه كما يقولُ عن نفسِه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
ومن حقِّه سبحانه عليهم أن يُوقنُوا بالمصيرِ إليه، فيستعدُّوا لِلِقائِه، ولا يطمئنّوا للحياةِ الدنيا ويرضَوا بها، يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.
ومن حقِّه سبحانه على عبادِه أن لا يُشركوا به شيئًا، فإنّه سبحانه لا ندَّ له يُسَامِيه في صفاتِه، ولا كُفؤَ له يماثلُه في نُعوتِه وكمالاتِه، وليس معه ربٌّ غيرُه يَخلُق ويَرزُق حتّى يُدعى ويُرجى مِن دونِه، فمَن أعرضَ عن الله إلى عبادةِ غيرِه، فقد كفرَ حقّه، وجحدَ فضلَه، واستحقَّ غضبَه وعقابَه.
وبالجملة فحقُّ اللهِ تعالى على العبادِ أن يُعبَدَ وحدَه حقَّ العبادة، كما قال النبي ﷺ لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: «يا مُعاذ، أتدري ما حقُّ اللهِ على العباد؟» قال: الله ورسوله أعلم، قال: «أن يُعبَد اللهُ ولا يُشرَكَ به شَيء»، قال: «أتدري ما حقُّهم عليه إذا فعلُوا ذلك؟» فقال: الله ورسوله أعلم، قال: «ألّا يُعذِّبَهم». أخرجه البخاري ومسلم.
فطُوبى لمن أدّى حقَّ ربِّه، فنجَى مِن عقابِه، وحازَ الجزيلَ مِن أجرِه وثوابِه، جعلنا اللهُ وإيّاكم والمسلمين منهم، بكرمِه وجودِه وإحسانِه.
ثم صلُّوا وسلِّموا على نبيِّنا محمّد، اللهم صلّ وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم إنا نسألك من الخير كلِّه، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونسألك الجنة وما يقرّبنا إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما يقرّبنا إليها من قول وعمل، ونسألك من خير ما سألك منه عبدُك ونبيُّك محمد ﷺ، ونعوذ بك من شر ما عاذ منه عبدُك ونبيُّك محمد ﷺ. اللهم وفّق وليّ أمرنا لِمَا تُحِبُّ وترضى، وخُذ بناصيته للبِرِّ والتقوى. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: اذكروا الله ذكرًا كثيرًا، وسبّحوه بكرةً وأصيلًا، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين.