عنوان الخطبة: (فبهداهم اقتده) : هدي الصالحين في العشر الأواخر.
عناصر الخطبة:
١- فضل العشر الأواخر.
٢- حال النبي ﷺ والسلف الصالح فيها.
٣- الاعتكاف سنة نبوية.
٤- عظمة عفو الله.
الحمد لله العفوِّ الغَفور، يَقبل من عبادِه الصالحات، ويَعفو عن السَّيِّئات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمَّدًا عبدُهُ ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعدُ؛ فاتّقوا الله -عبادَ الله- حق التقوى، وراقبوه في السِّرِّ والنجوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي
هكذا يقول الإنسانُ يومَ القيامة، حين يَعلَمُ عينَ اليقين أنَّ الدارَ الآخرةَ هي الحياة، وما دونَها سرابٌ زائل.
عِبادَ الله:
إنّ زادَ العبدِ لتلك الحياةِ الطيِّبة الباقيةِ عملُه الصالح، الذي يُوَفِّقهُ اللهُ إليه برحمته.
يقول الله تعالى في الحديث الإلهي: «يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ». صحيح مسلم (٢٥٧٧). (١)
ومِن رَحَماتِ اللهِ الواسِعَة، أنه أنعمَ عليهم بنفَحَاتٍ من رحمته، يضاعِفُ لهم بها أجورَ الطاعات، ويفتحُ بابَ العَفْوِ عن الذُّنوبِ والسَّيِّئات.
هذا وَمِن عظيمِ نَفَحات الكريمِ العَشْرُ الأواخرُ من شهر رمضان، تلكَ العَشْرُ التي فيها الليلةُ المباركة، ليلةُ القدر، وما أدراك ما ليلة القدر؟
إنّـها ليلةُ المغفرة، من قامَها وأحياها في طاعة الرحمن، مُخلِصًا لله تعالى، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه.
يقولُ النبيُّ ﷺ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». صحيح البخاري (١٩٠١)، وصحيح مسلم (٧٦٠). (٢)
إنّها ليلةٌ تمتلئ الأرضُ فيها بملائكةِ الرحمن، ومعَهم روحُ القُدُس جبريلُ عليه السلام، وما ظنُّك بليلة تملأُ الملائكةُ فيها جَنَباتِ الدنيا!
يقول النبيُّ ﷺ: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ أَكْثَرُ فِي الْأَرْضِ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى». صحيح ابن خزيمة (٢١٩٤)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (٢٢٠٥). (٣)
لذا كانَ مَن حُرِمَ فضْلَ هذه الليلةِ هو المحرومَ.
يقول النبيُّ ﷺ: «إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ». سنن ابن ماجه (١٦٤٤)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (١٣٣٣) (٤)
تلك الليلةُ عظيمةُ القَدْر والشَّرَف، أنزل الله فيها خيرَ كُتُبه، على خير رُسلِه، لخير أمّةٍ أُخرِجت للناس، تلك الليلةُ التي جعلَها اللهُ خيرًا مِن ثلاثة وثمانين عامًا.
ولقد كان مِن حِكمة الله تعالى أنه لم تُعَيَّنْ تلك الليلةُ من ليالي العَشر؛ حتى يجتهدَ العبدُ في طاعة الله طيلة العَشْر.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» صحيح البخاري (٢٠٢٠)، وصحيح مسلم (١١٦٩). (٥)
ولأجل ذلك كان النبي ﷺ يجتهدُ في العشرِ الأواخرِ أعظمَ الاجتهاد، حتى يحييَ ليله، ويوقظُ أهله للصلاة والذكر.
فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ». صحيح البخاري (٢٠٢٤)، وصحيح مسلم (١١٧٤). (٦)
وتقول رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، مَا لاَ يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ» صحيح مسلم (١١٧٥). (٧)
هكذا كانت ليالي العَشْر عند رسول الله ﷺ، وكذلك السلفُ الصالح، لياليَ معمورةً بالصلاة، والذكر، والدعاءِ، والقُرآن.
يقول السَّائِبُ بْنُ يَزِيد: «أَمَرَ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ أُبَيَّ بنَ كَعبٍ وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً». قَالَ: «وَقَدْ كَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِئِينَ، حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى الْعِصِيِّ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، وَمَا كُنَّا نَنْصَرِفُ إِلاَّ فِي فُرُوعِ الْفَجْرِ». موطأ مالك (٢٥١)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (٢/١٩٢). (٨)
وكان من السَّلَفِ الصَّالِح من يغتسِلُ في العَشر كلَّ ليلةٍ، ويتطيَّب، ويلبَسُ أجودَ الثِّياب، ليكونَ على أتمِّ حالٍ وأحسنِه وهو يناجي ربَّه ومولاه.
ومِن السُّنن النبوية في العشر الأواخر من رمضانَ سُنَّةُ الاعتكاف في المساجد.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ». صحيح البخاري (٢٠٢٥)، وصحيح مسلم (١١٧١). (٩)
إن الاعتكافَ عكوفُ القلبِ على الله تعالى، وإقبالُ العبد بقلبه وروحِه وجوارِحه على الله تعالى، لا يلتَفِتُ عنه إلى غيره، بل هو لا شُغْلَ له إلا طلبُ مراضي ربِّ العالمين.
شعارُ حياتِك في اعتكافك: وعَجِلتُ إليك ربِّ لتَرضى، تتهجَّدُ إليه ليَرضى عنك فيُرضِيَك.
أوَلم تسمع قوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى [طه: ١٣٠].
يا عباد الله:
إنَّه إقبالٌ ابتغاءَ القُرْب، حتى تكونَ مع السَّابقين المقرَّبين، لتحظَى برَوْحٍ ورَيحانٍ وجنَّةِ نَعيم.
تُقبِل وأنت تعلمُ أن إقبالَ الله عليك أعظمُ من إقبالك عليه.
أوَلم تسمع قول النبي ﷺ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً». صحيح البخاري (٧٤٠٥)، وصحيح مسلم (٢٦٧٥). (١٠)
إنَّكَ تُقبِلُ على الله لتأنسَ به، فإنه سبحانه جليسُ مَن ذكَرَه، وأيُّ أُنْسٍ أعظمُ من أن تَقَرَّ عينُك بذِكر ربِّ العالمين ومناجاته.
إنّكَ تُقبِلُ على الله مُتضرِّعًا أن يُصلِحَ لك قلبَك، ويُطهِّر لك نَفْسَك.
إنّه عكوفُ قلبٍ ورُوح، عُنوانُه كما رُوي عن عَطاءٍ الخُراسانيِّ رحمه الله: «كَانَ يُقَالُ: مَثَلُ المعْتَكِفِ كَمَثَلِ عَبْدٍ أَلْقَى نَفْسَهُ بَينَ يَدَي رَبِّهِ ثُم قَالَ: رَبِّ لا أَبْرَحُ حَتَّى تَغْفِرَ لي، رَبِّ لا أَبْرَحُ حَتَّى تَغْفِرَ لي».
تُقبلُ على الله حتى تكونَ من أوليائه، ممن يحبهم ويحبونه.
أوَلم يقل ربُّ العالمين في الحديث الإلهيّ: «مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ». صحيح البخاري (٦٥٠٢). (١١)
عباد الله:
الدنيا زائلة، وما عند الله خيرٌ وأبقى، فلا تغرنَّكُم الحياةُ الدنيا، وما هي إلا أيَّامٌ وتزولُ الدنيا عنّا، فتزوَّدوا مِن العمل، قبل حلول الأجل.
قال الله تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الجمعة: ١١].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فاتقوا الله عباد الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه.
إخوة الإسلام:
سأَلَت أمُّ المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها رسولَ الله ﷺ، فقالت: «يَا رَسُولَ الله! أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيَّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي». جامع الترمذي (٣٥١٣)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (٣٣٣٧). (١٢)
ما أكرمَ هذه الدعوةَ التي اختارها النبيُّ ﷺ لتلك الليلة المباركة، وكيف لا؟ وكلُّ خير في عَفْو الله وعافيته.
إنّ الذنوبَ والمعاصي رانٌ على القلوب، وسمومٌ في الأبدان، وغِشاوةٌ على الأبصار، وذُلٌّ في الوجه، وحِرْمانٌ من التوفيق، وتعسيرٌ لأمور الخير، وسببٌ لنزول العقوبات الربانية.
إلّا أن الله سبحانه هو العَفوّ، سبقت رحمتُه غضبَه، وعفوُه أحبُّ إليه من عقوبته، وهو الذي يَقبل التوبةَ عن عباده ويعفو عن السيئات، فإن عفا عن عبدِه غفرَ له ذَنْبَه، ومحا عنه كلَّ آثاره في الدنيا والآخرة، وذاك والله هو الفوزُ العظيم.
اللهم إنا نعوذ برضاك من سَخَطك، وبمعافاتك من عُقوبتك، وبك منك، لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
اللهم انصُر عِبادَك المجاهِدين في سَبيلِك، ودَمِّر اليهودَ القتَلةَ الـمُجرِمين، ونجِّ برحماتك عبادَك المستضعَفين.
اللهمَّ وفِّق وليَّ أمرنا لِما تُحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتهِ للبِرِّ والتَّقوى، ربَّنا آتِنا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخِرةِ حَسَنةً وقِنا عذَابَ النَّار.
عِبَادَ الله: اذكرُوا اللهَ ذِكرًا كثيرًا، وسبِّحوهُ بُكرةً وأصيلًا، وآخرُ دَعوانا أَنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.