عنوان الخطبة: اليهود أهل الغدر والخيانة.
عناصر الخطبة:
١- قتلة الأنبياء.
٢– تاريخهم في الغدر والخيانة.
٣- أسباب غدرهم بغيرهم.
٤- وفاء أهل الإيمان.
الحمد لله الذي يعلمُ السِّرَّ وأخفى، سبحانه ربُّ الأرض والسموات العُلا، أضحكَ وأبكى، وأماتَ وأحيا، وأغنى وأقنى، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدهُ ورسولهُ النبيُّ الأوْفى، اللهم صلِّ وسلّم عليه وعلى آله وصحبه ومنْ تزكَّى. أما بعد.
فاتقوا الله عِبادَ الله حق التقوى، وراقبوه في السِّرِ والنَّجوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
عِبادَ الله:
مرِضَ نبيُّنا ﷺ في آخر حياتِه مرضًا شديدًا، وبينما هو يتألَّمُ ﷺ، قال: «مَا زِلْتُ أَجِدُ مِنَ الأَكْلَةِ الَّتِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ فَهَذَا أَوَانُ قَطَعَتْ أَبْهَرِي». رواه أبو داود.
لقد جَمَع اللهُ لنبيِّه ﷺ بين النبوَّة والشهادة مُبالغةً في الرِّفعةِ والكرامة.
فما هي قصَّةُ هذه الأَكْلَة؟
إنّ امرأةً من يهود خيبر، أهدَتِ النبي ﷺ شاةً طعامًا له، ووَضعتْ فيها سُمًّا، فأكل النبي ﷺ وأصحابُه شيئًا يسيرًا منها، ثم أعلمهُ اللهُ بالأمر، فأمر أصحابَه بالكفِّ عنِ الطعام، وأخبرَهمْ أن الله أعلمَه أنَّها مسمومة، فماتَ مِنْ أثَرِ هذا السُّمِّ الصحابيُّ بِشْرُ بنُ البراء رضي الله عنه، وأما النبيُّ ﷺ فتأثّر به وظلَّ يُعاني حتى اشتدَّ عليه ضَرَرُه في آخر عُمُرِه، فكانَ يقولُ في مرَضِه الذي مَاتَ فيهِ: «يَا عَائِشَة! مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ» رواه البخاري.
إنَّهم اليَهودُ قتَلةُ الأنبياء.
قال الله تعالى: لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ.
هم أهلُ الغدرِ والخيانة، يَنْقُضون المواثيق، ويَخونون العُهود.
قال الله تعالى: الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ.
لقد حاولوا كثيرًا قتلَ رسولِ الله ﷺ، وغَدَروا به وبأصحابِه مرارًا حتى أجْلاهُم عنِ المدينة المنورة.
فعندما هاجر النبيُّ ﷺ إلى المدينة، كان بها من اليَهودِ يهودُ بني قَينُقاعَ وبني النَّضير وبني قُرَيْظة، وقد أجمعوا كلُّهم على الكفرِ بالنبيِّ ﷺ حَسَدًا وبغْيًا، معَ عِلْمِهم بصِدقه وأنَّه نبيُّ الله، ولم يُسلِم منهم إلا القليل، كعبد الله بن سَلَامٍ وغيرِه، وقد عَقَد النبيُّ ﷺ معَ اليهودِ عَهْدًا على الـمُجاورة بالإحسان، والدِّفاع المشترَكِ عن المدينة، وعدمِ مُظاهرةِ المشركين عليه، إلا أنّـهم -كعادتهم في الغَدْرِ والخيانة- غدروا بالنبي ﷺ وخانُوا العَهْدَ الذي قطعوهُ مَعَه مِرارًا وتَكرارًا.
فأمَّا يهودُ بني قَينُقاعَ فَغَدروا بالمسلمين بِخِسَّة ودَناءة، وذلك حين أتتْ إلى سوقِهِمُ امرأةٌ مسلمةٌ بحُلِيٍّ لها تبيعُه، فتآمرُوا عليها حتى كشفوا ثيابها، فقامَ صحابيٌّ غَيُورٌ أَبيٌّ فقتلَ الخبيثَ على فِعْلته، فقتلوه، فقام إليهِمُ النبيُّ ﷺ فأجلاهم عَنِ المدينة.
وأما يهودُ بني النَّضير، فقد تآمروا على قتل النبي ﷺ، وذلك حينَ ذهب إليهم يَسْتعينُهم في دَفْع دِيّة قتيلَين من بني عامِر، فتآمروا على قتله ﷺ برمي حَجَرٍ عليه وهو قاعدٌ إلى جَنْب جدارٍ مِن بيوتهم، إلا أنَّ جبريلَ أخبرَهُ بالأمرِ فقام، ثم أجلاهم عن المدينة.
وأما يهودُ بني قُريْظة، فقد نَقَضوا العَهْدَ والذمّة، إذ تحالفوا معَ المشركين على قتال النبيِّ ﷺ يومَ الأحزاب، فكان جزاؤهُمُ القتلَ والذِّلَّةَ والصَّغار، حُكمًا بالقِسط من العزيزِ الجبّار.
لقد كانت سِيرَتُهم دائمًا مصداقًا لقوله تعالى: وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ.
كيف لا يخونون رسول الله ﷺ والمؤمنين وقدْ خَانوا الله من قبل؟! فمن خَان اللهَ وأمانتَه هانتْ عليه خِيانةُ البَشَر وسَهُلَ عليه الغدرُ بهم، كما قال الله تعالى: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ.
لقد استحْفَظهمُ اللهُ على كتابهِ ودِينه وشرعه، فحرَّفوا الكَلِمَ عن مواضعه واشترَوْا بآياتِ الله ثمنًا قليلًا، وبدَّلوا دِينَ اللهِ إرضاءً لأصحابِ المال والسلطان.
ولقد أظْهَرتِ الأحداثُ غدْرَهم وخِيانتَهم ولصوصِيتَهم.
لقد سَرَقوا الأرضَ والأموال، بل وجُلودَ الأسرى، وأعْضاءَ الموتى، بل والأطفالَ الرُّضَّع، ألا ما أخبثَهم من لُصُوصٍ خَوَنة!
إخوة الإسلام:
إنّ للمرءِ أن يتساءَل: لماذا صارتِ الخِيانةُ والغدرُ طَبْعًا لهؤلاء؟
إن اليهودَ يرَوْن أنفسَهم أبناءَ الله وأحباءَه، وأنّهم شَعْبُ الله المُختار، وأنَّ كُلَّ مَن سِواهم خبيثٌ لا يستحقُّ الحياة، لا ذنْبَ عليهم إن خدعوهُ أو قَتَلوه، لأنّه لم يَحُز شَرَف اليَهوديّة، كما بيّن الله تعالى ذلك بقوله: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
ها هم يَنْطلقونَ في تلك الإبادةِ الجَماعية من تَوْراتهِمُ المحرَّفةِ المَكذوبة، فينقُلُون منها - كذبًا على الله - أنّه أَمَرَهم بحَرْقِ المُدُن على بَكْرةِ أبيها، وقتلِ كلِّ مَن فيها، حتى الأطفالِ الرُّضَّعِ بل والدوابِّ، وإفناءِ الأخضر واليابس.
إنّهم يرَوْن أنّهم مهما فَعَلوا فسيغفرُ اللهُ لهم، فها هم أحبارُهم يبيعونَ الآخرة بعَرَضٍ مِنَ الدنيا، ويغيّرونَ دِينَ اللهِ إرضاءً لأهلِ المالِ والسُّلطان، ثم يدَّعون زُورًا أن اللهَ سيغفرُ لهم، كما قال الله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ.
إنَّ أقْصَى ما يتوقَّعونهُ مِن عَذابِ اللهِ أن يمسَّهم بالنارِ أيامًا قليلةً معدودة، ثم يخرُجونَ منها مهما كانَ جُرْمهم، قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ.
لقد غرَّتهمُ افتراءاتُهم على الله، فنُزِعَت مِن قلوبهمُ الخَشية، واستبْدَلوا بها الإرجاءَ والأمانِيَّ الكاذِبة، فصاروا بهذه العقائدِ المحرَّفة، والنفوسِ المتعاليةِ المجْحِفَة، أمةً مسْخًا بين الأمم، يسعَوْن في الأرض فسادًا، ولا يعرفون إلا الغَدْرَ والخيانة، وسَرِقة الأحياءِ والأَمْوات.
فيا جهلَ من أمِنَهم مِن مَرضى القُلوب والمنافقين! ويا خُسْرانَ مَن رَكَن إليهم واتخذهُم بِطانةً من دون المؤمنين! ويا خزيَ من ابتغى من وراءِ مُوالاتهِمُ العِزَّ والتَّمكين! فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آلِه وصحبِه ومن والاه، وبعد:
عِبادَ الله:
إنَّ الله عدْلٌ رحمانٌ رحيم، يأمرُ بالعدلِ والأمانة، ويَنهى عنِ الظُّلم والخيانة.
ولقد كان نبينا ﷺ أوْفى الناس، حتى لأعدائه.
يقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: «مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلاَّ أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلٌ، قَالَ : فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، قَالُوا: إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا، فَقُلْنَا: مَا نُرِيدُهُ، مَا نُرِيدُ إِلاَّ الْمَدِينَةَ، فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلاَ نُقَاتِلُ مَعَهُ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: انْصَرِفَا، نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ ، وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ» رواه مسلم.
هكذا كان النبيُّ ﷺ الصادقُ الأمينُ الوَفيّ، الذي لا يعرف الغَدْر والخيانة، يَفِي لأعدائه عهدَهم، ولا يخون ولا يغدِر، ليسَت له خائنةُ الأعين، يوصي جيشَه الفاتحَ قائلًا: «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تَغْدِرُوا، وَلاَ تُـمَثِّلُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا» رواه مسلم.
لقد سار أتباعُه المخلِصُون على هَدْيِهِ الكريم، حتى علَّموا الدُّنيا الأمانةَ والوفاء، فانتشرَ دينُ الله في الآفاق لأمانة المسلمين ووفائهم.
وكم هو الفَرقُ عظيمٌ بينَ من يَحفَظُ الأسْرى من أعدائِهِ حتى يُسلِّمَهم لأهليهم بَاسِـمِي الثُّغور، ومَنْ يُطْلِقُ الأسرى معذَّبين مُنهَكين، أو يسلِّمُهم جُثَثًا منزوعةَ الأعضاء والجلود.
اللَّهُمَّ انصُر الإسلامَ وأعزَّ المسلمين، وأهلِك اليهودَ المجرمين، اللهمَّ وأنزِلِ السكينةَ في قُلوب المجاهدين في سبيلك، ونجِّ عِبادكَ المستضعفين، وارْفَع رايةَ الدين، بقوَّتِك يا قويُّ يا متين.
اللهمَّ وفِّق وليَّ أمرنا لِما تُحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتهِ للبِرِّ والتَّقوى. ربَّنا آتِنا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخِرةِ حَسَنةً وقِنا عذَابَ النَّار.
عِبَادَ الله: اذكرُوا اللهَ ذِكرًا كثيرًا، وسبِّحوهُ بُكرةً وأصيلًا، وآخرُ دَعوانا أَنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.