عنوان الخطبة (حُسن شرع الله)
عناصر الخطبة:
١- دلائل كمال الله في مخلوقاته.
٢- كمال تشريعات الله.
٣- أحوال الناس مع الشرع.
٤- ماذا ينقمون من شرع الله؟
٥- الأحكام الشرعية تبيّن جمال الشرع وكماله.
٦- أهمية اعتزاز المسلم بدينه.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ .
إخوة الإسلام:
إن دلائل كمال الله تعالى وبراهين حمده في هذا الكون أعظم من أن تُحصى، وأجلّ من أن تُستقصى، فالكون مليء بآثار قدرة الله تعالى وعلمه، وحكمته ورحمته، وكرمه وإحسانه، ولطفه وتدبيره، وجلالته وعظمته، وجبروته وعزّته، سبحانه وبحمده.
تأمّل في السماء وروعتها، وما فيها من نجومٍ وكواكب، وُضعت على ميزانٍ دقيق، وأُخضعت لثوابتَ كونيّةٍ لا محيد لها عنها، تأمّل بديع صنع الله في هذه الأرض، كيف أرساها بالجبال، وبسطها بالسهول، وجعل فيها البحار بعجائبها وخصائصها ومنافعها، يصعد بخارها إلى السماء، فتنقلها الرياح إلى الأرض الجرداء، فتهطل أمطارًا على قومٍ في غاية الحاجةِ إليها، فيسقيهم الله ويسقي دوابّهم ويَمُدّهم بفضله، فكم في ذلك لله من رحمةٍ ولطف، وكرم وجود، وإنعامٍ وتدبير، وعزّة وقدرة، وعلم وحكمة؟
تأمل في نفسك يا ابن آدم! تأمل في أعضاء جسدك، كيف جعل الله لك حواسَّ تُبصر بها وتسمع وتستشعر، وجعل لك أعضاء في داخل بدنِك بها تبقى حياتُك وتستمرّ، إنك لا تدري كيف تعمل أعضاؤك ولا تفكّر فيها، فقلبك ينبض دون ملل، ورئتاك تشهقان وتزفران، والكبد يعمل والأمعاء، والدماغ وسائر الأعضاء، ليس عملها موقوفًا على إرادتك، ولو أُوكل إليك أمر عملها لضيّعْتها وأهلكت نفسك، لكنّ ربّك الرحمنَ الرحيمَ، القدير العليم، يدبّرك، ويتولّى أمرك.
هذا الربّ سبحانه، بكماله وجلاله، هو الذي خلق فأبدع، فارجع البصر إلى خلقه، هل ترى من فُطور، ثم ارجع البصر كرّتين ينقلبْ إليك البصر خاسئًا وهو حسير.
هذا الربّ سبحانه الكامل في صفاته، ربٌّ طيب لا يقبل إلّا طيبًا، قدوسٌ سلام منزّهٌ عن كلّ نقص، فكما أنّ صفاتِه كاملةٌ لا نقص فيها، فأوامره وتشريعاته وأحكامه كاملةٌ لا نقصَ فيها، جاءت على أحسن الوجوه وأتمها، لا يَشِينها حكمٌ، ولا يَعيبها تشريع.
فالربّ إذا أمر، فإنما يأمر بمعالي الأمور ومكارمِها وفضائلِها، وإذا نهى فإنما ينهى عن سواقط الأمور ومفاسدِها ورذائلِها، فشرعُه كلّه إحكام، وحُكمه كلّه خيرٌ على الكمال والتمام.
وإنّ من جهل الإنسان المعاصر ونقص عقله، أن رأى بعينيه كثيرًا من براهين كمال خلق الله الدالة على كمال صفاته، ثم أعرض عن تشريعاته وأحكامه، لأنها لم تأت موافقةً لعقله وآرائه، ولا مناسبةً لشهواته وأهوائه.
فذهب هذا الإنسان ينقم على شرع الله كلَّ ما هو جميل في الفِطر السليمة، ويستنكر على حكمه ما هو حسنٌ في العقول القويمة، إنّ هؤلاء لما فسدت نفوسهم بالمنكرات، صارت مشكلة الشرع عندهم أنه لم يتبع هواهم الفاسد، وَلَوِ اتّبَعَ الحَقُّ أَهوَاءَهُم لَفَسَدَتِ السّماواتُ والأرضُ ومَن فِيهِنّ. وصاروا بعد ذلك أنواعًا: فمنهم من يُعلن كفرَه بشرع الله تعالى ويرفض اتّباع دينه، ومنهم من يتظاهر بأنه قابل لشرع الله، لكنه يريد أن يحصُره في المسجد فقط، فيقول: الدين بينك وبين الله، ولا علاقة له بالحياة العامّة ومعاملاتها، ومنهم من يدّعي أنّ الإسلام كانَ مناسبًا لعصر غير عصرنا هذا، ومنهم من يريد إعادة فهم الوحي على مزاجه العصري لا على فهم النبي ﷺ وأصحابه، إلى غير ذلك من مقالاتٍ ترجع كلُّها إلى عدم الرضا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولًا.
فليت شِعري ماذا يَنقِمونَ من شرع الله؟
هل يَنقِمونَ منه أمرَه بدعاء الله تعالى وعبادته وحده، أفليس هو المستحقّ لذلك على أتمّ الوجوه؟ فهل يستحقّ ذلك غيرُه؟ أم يجيبُ الدعاءَ سواه؟ أم يماثلُه أحد في أنَّ له الحمدَ والثناءَ الحسن؟ أفعبادةُ الرّب الحميدِ خيرٌ؟ أم عبادةُ المخلوق التي حقيقتُها عِبادةُ الهوى والشيطان؟
هل يَنقِمونَ من شرع الله أمرَه بطاعة الرسول محمدٍ ﷺ واتباعِ سنّته؟ فهل علمتُم في العالَمين خيرًا من محمدٍ فداهُ أبي وأمي ﷺ؟، هل رأيتُم بشرًا في كمال خُلقِه وهديه، وسلامة قلبِه وعَمَله، وكمال عقله وحِكمته، وتمامِ عبادته وتقواه، وجمال شمائله وخِصاله؟ فماذا ينقمون ممن اتبع سنته واقتفى سيرته، آتباع سنته ﷺ خيرٌ؟ أم اتباعُ الأهواء الفاسدة، والآراءِ المتناقضة؟
ماذا يَنقِمون من شرع الله؟
هل ينقمون منه حثَّه على البرّ والصّلة؟ أم أمرَه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وفرضَه حقًّا في مال الغني للفقير، أهذا الحكم خير؟ أم أحكام الإنسانِ الماديّةُ التي لا تعرفُ الرحمة، فتزيدُ الغنيّ غنىً وطغيانًا والفقير فقرًا وحرمانًا؟
هل ينقمون من شرع الله إعطاءه الذّكر حقّه والأنثى حقّها، والتفريق بينهما في الأحكام تبعًا للتفريق بينهما في الخِلقةِ وطبيعة النفس والوظيفة، وهو سبحانه الأعلم بما خلق؟ أهذا خيرٌ أم تكليفُ الأنثى بما كُلّف به الذَّكر، بإسداء أعمال الرّجال الشاقة إليها وتحميلها مسؤوليّاته بدعوى المساواة، أفحكمكم خيرٌ أم حكم العليم الرحيم، الذي أوجب لها كرامةَ الأب والزوجِ ونفقتَهما ورعايتَهما وحُسنَ ولايتهما، وحرّم عليهما ظلمهَا وبخسَها حقّها، فهي المصونة المُكرّمة، وجعلَ الرجلَ للأسرةِ وليًّا وسيّدًا كما أن لكلّ مؤسسةٍ سيدًا، فأين العقول يا ذوي العقول؟
هل ينقمون من شرع الله تحريمَه الزنا وفعل قوم لوط؟ وهي فواحش تأنف الفطر السليمة من التصريح بأسمائها فضلًا عن فعلها واستباحتها، مع حثّه على الزواجِ الحلال، وأمرِه بحُسن العشرة فيه، أفحكمكم الذي يستحسن تلك الفواحش ويسمّيها حريّةً، ويعسِّرُ الزواج ويقبّحه، ويضعُ في طريقه العراقيل، ويعمل على تقويضه وإفساده، حتى يفشوَ الزِّنا، ويكثرَ الإجهاض أو فسادُ الأنساب، أهذا خيرٌ؟ أم حكمُ الربّ القدّوس السَّلام، الذي لا يرضى الفُحشَ القبيحَ ولا يُقرّه، ويأمرُ بالطيّبات ويستحسِنُها ويرضاها ويُحبُّها ويُسهِّلُ طرُقها وييسِّر وسائلَها، ويَبني الأُسَر السليمة، ويحمي الأجنّة ويحفظُ الأنساب؟
ماذا ينقمون من شرع الله؟
هل ينقمون منه منع تناول المسكرات من الخمور والمخدّرات، حفاظًا على عقل الإنسان ووعيه، وإبقاءً لكرامته وصحته، أهذا الحكم خير؟ أم حكم من يدع الإنسانَ يفسد نفسه وعقله وعافيته بدعوى الحرّية؟
ماذا ينقمون من شرع الله؟
هل ينقمون منه تشريع الحدود كالقِصاص؟ وهل ترْكُ القاتلِ حيًّا وهو الذي قتلَ مسلمًا بعمدٍ وعدوان، هل ترْكُه حتى يكثرَ القتلةُ المجرمون ويجترِؤوا على سفكِ دِماء الناس وإرهابهم، أو يقابِلَ أولياءُ المقتول ظُلمَ القاتل بظلمٍ مثلِه، فيطلبوا الثّأر بقتل شخصٍ آخَر، ثم يَردُّ أولئك، حتى يستحِرَّ القتلُ وتَنشَبَ المعاركُ بين الناس، هل هذا خيرٌ أم قتلُ تلك النّفسِ المجرمةِ قِصاصًا؟ ألم ترَوا الرَّحمةَ والحِكمة في ثنايا هذه العقوبة؟ ومثلُ هذا يُقال في قَطعِ اليَدِ على السَّرِقة، والجَلدِ على الزنا أو القَذف، وغيرِها من الـحُدود التي شرعَها الحكيمُ الخبير.
هل ينقمون من شرع الله أمْرَه بمجاهدة أعداء الله وكفِّ أذاهم، والاستعلاءِ على كفرِهم، ومنعِ فتنتِهم، صيانةً لهذا الدين العظيم، وإعلاءً لكلمة الله على كلّ دينٍ باطل وفكرٍ سقيم، فهذا والله هو الكمالُ والحكمة، ومقتضى العقلِ والفطرة، فهل تَحسُنُ المجاهدةُ للحفاظِ على الأرضِ والعِرض، ولا تَحسُن للحفاظِ على الدين؟
فتبارك الله أحكم الحاكمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
عباد الله! متى ما صحَّتِ الفِطرة وصَفَت، واستقامتِ العقولُ في فِكرِها وسَمَت، لم تجِد مثل شرع الله تعالى حكمًا، ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُون.
إن هذه التشريعات التي يظنها الكافر الجاهل مَطاعنَ في الإسلام، لهي من أعظم أدلة صحّتِه وجمالِه، فهي لأهلِ الإسلام مَفاخِر يعتزّون بحُسنها ويَستعلُون على كلّ الأديانِ بها.
ولذلك لما قدِم الصحابي الجليل العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه على ملِك البحرين المنذر بن ساوى، دعاه إلى الإسلام، وقال له: «هذا هو النبي الأمّيّ، الذي واللهِ لا يستطيعُ ذو عقلٍ أن يقول: ليتَ ما أمر به نهى عنه، أو ما نهى عنه أمرَ به، أو ليته زادَ في عفوه، أو نقصَ من عقابه، إنّ كلَّ ذلك مِنه على أُمنيّةِ أهل العقل، وفِكر أهل الـبَصَر».
فارفع رأسك بدينك يا عبد الله! وافرح به! فقد أنعمَ الله عليك بأن جعلك عبدًا له لا لغيره، وأنزَل لك أحسن الأحكام والشرائع، وجعل رسولَك وقدوتَك خيرَ النّاس أجمعين.
ومـمّـا زادنـي شرَفًا وَتِيــها
وكِدتُ بأَخـْمَصِي أَطَـأُ الثُّرَيّا
دخولي تحت قولك يا عبادي!
وأن صيّرتَ أحمدَ لي نبيًّا
اللهم صلّ وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعنّا ولا تُعن علينا، وانصُرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسّر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم وفّق وليّ أمرنا لِمَا تُحِبُّ وترضى، وخُذ بناصيته للبِرِّ والتقوى. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: اذكروا الله ذكرا كثيرًا، وسبّحوه بكرة وأصيلًا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.