بسم الله الرحمن الرحيم
كلّ الحضارات البشرية التي بادتْ وانتهتْ هي متاحة للفضول البشري؛ إلا حضارة مهدّدة لم تسقط بعد؛ لكنها مقفل عليها بباب، ومن ورائه رجل وقور يكتب في مذكرته الخاصة بمزيد غبطة وتفاؤل. تُرى ماذا كان يكتب؟
ليس بين كل المواد الدراسية مادّة يشغف بها "لبيب" وينتظر حصصها التي تستفزّ أعصابه وتثير خياله كمادة التاريخ. إنها مادة فهم الحياة الواقعية بأحداثها الحقيقية وتعقيداتها المتشابكة كما عاشها السابقون من الشعوب والأمم البائدة، وكما يعيشها المعاصرون من أهل هذا الزمان الحي. أليس التاريخ يعيد نفسه مرات وكرات كما يقول مدرس المادة في حصصه الشيّقة؟
لذلك سارع لبيب بتسجيل اسمه مشاركا في زيارة مدرسية تنظِّمها لجنة التاريخ في المدرسة؛ زيارةِ متحف تاريخي افتُتح مؤخرا، سمع به ولم يحظَ بزيارته لبُعد المسافة إليه عن بيته، فانتهزها فرصة وأخذ ينتظر، وكلما اقترب موعد الزيارة وتحمَّس؛ حدث في المدرسة من الأمور ما يتسبَّب في تأجيلها لموعد آخرَ غيرِ مسمّى.
حدَث ذلك مرتين وثلاثا، فلم يعد ينتظر أو يتحمّس؛ ولكنّ المفاجأة وقعتْ ذات صباح حين أهابتِ الإذاعة المدرسية بالطلاب المشاركين في الزيارة الموعودة للمتحف التاريخي أن يسرعوا بالتوجّه إلى حيث تقف الحافلة المدرسية في انتظارهم. وهناك يتجمّع الطلاب بمعلميهم من أعضاء لجنة التاريخ، يستقلّون الحافلة المتأهّبة لشقّ طريقها إلى حيث يجثم المتحف التاريخي على بُعد ساعة من مدرستهم.
وخلال الطريق تناوب المعلمون الكلام في حديث مقتضب - تتخلّله نكات ودعابات عفوية - حول أهمية دراسة التاريخ للتعرف على مختلف الحضارات البشرية التي سادتْ وبادتْ على الأرض خلال العصور المتتابعة والقرون الماضية، وأن الدروس المستفادة من ذلك التاريخ الحضاري الطويل للأمم والشعوب السابقة لا يمكن الاستهانةُ بها أو التقليلُ من شأنها وأهميتها. و..
وانصرف ذهن لبيب مع زملائه إلى المتحف نفسه قبل أن يصلوا موقعه ويدخلوه، حين عرفوا من معلميهم أن المتحف سوف يستعرض معهم بكل أقسامه ومحتوياته كل الحضارات البشرية السابقة التي شهدتْها الأرض، واستدلّ عليها المؤرخون بدلائلها المعنوية وآثارها المادية التي خلّفتْها من ورائها شواهدَ حضارية قائمة تعبّر عما كانتْ عليه وما صارتْ إليه.
وما كادوا يصيرون بسيارتهم قريبا من باب المتحف حتى انفتح باب السيارة بشيء من العنف، وتقافز منها لبيب وزملاؤه مسارعين مبادرين بالدخول إلى المتحف. وبدأ استكشافهم للحضارات البشرية فور دخولهم حضارة إثر حضارة، بعد كلمة ترحيبية سريعة استمعوا إليها من موظف الاستقبال في المتحف.
وكان المتحف بطابقَيْه مقسَّمًا إلى أجنحة وأبهاء كبيرة؛ كل جناح منها يستعرض حضارة بشرية معينة وفق الترتيب الزمني الذي قدَّره لها العلماء المختصّون. يتعرفون خلال استكشافهم لتلك الحضارات على مواطنها من الدول والقارّات، والفترات الزمنية التي سادت خلالها، والشعوب التي ساهمتْ في بنائها وإقامتها، والديانات التي اعتنقوها، والجوانب الحضارية التي تميزوا بها، والشواهد الأثرية التي تركوها وخلّفوها؛ كل ذلك عبر أفلام وثائقية ناطقة، ومجسَّمات تقريبية مصغَّرة، وشواهد ومقتنيات أثرية حقيقية أو مشابهة.
وابتدأوا استكشافهم بأقدم الحضارات البشرية كما يقال، كالسومرية والبابلية والآشورية والأكّادية والكلدانية، مرورا بالإغريقية والفرعونية والكنعانية والرومانية والصينية، ولحوقا بالفارسية والهندية وحضارات المايا والأنباط والأنديز والأزتيك والإنكا وغيرها.
وكثير من هذه الأسماء الغريبة يطرق أسماعهم لأول مرة، وكثير منها بل أغلبها قامتْ على معتقدات وثنية، وأوهام وخرافات أسطورية، لا أساس لها من الصحة في الميزان العقلي والمنطق العلمي؛ رغم إنجازاتها الحضارية المشهودة في الجوانب المادية والمحسوسة من متطلبات الحياة اليومية والمعيشية؛ أفلا يمكن أن تقوم حضارة إنسانية سوية من حيث المعتقد الديني والفكر العقلاني والخلُق الإنساني، ويمزج بينها بالقسطاس المستقيم؟
ذلك ما كان يهجس به لبيب في نفسه وهو يوشك مع زملائه أن ينتهي من استكشاف تاريخ الحضارات السابقة في المتحف. ووصل معهم إلى آخر جناح من أجنحة المتحف؛ ولكنهم وجدوه موصَدا أمامهم بباب مكتوبٍ عليه في أعلاه بخط يهتزّ ويضطرب: الحضارة المهدَّدة!
وتساءلوا جميعا في أنفسهم أولًا، ثم بصوت مسموع ثانيًا:
- ما هذه الحضارة المهدَّدة؟
وكرّروا سؤالهم مذهولين حائرين.
وقبل أن يجيبهم أحد انفتح الباب الموصَد أمامهم فجأة، وظهر من ورائه رجل وقور ابتسم في وجوههم وحياهم قائلا:
- تفضلوا بالدخول يا أبنائي، أنا سأجيبكم عن سؤالكم؛ بل أُعِينُكم على الوصول إلى إجابة سؤالكم بقصة أحكيها لكم!
سألوه بعد أن جلسوا على مقاعد تحيط بمجسَّم موضوعٍ وسط الجناح الذي أثار فضولهم:
- أيّ قصة تريد أن تحكيها لنا؟
- قصة هذه المدينة المسكينة التي ترونها مجسَّمة أمامكم بصورة مصغَّرة، وهي مهدَّدة بالسقوط والدمار في أي لحظة، محاطةٌ بجيوش كثيفة من الأعداء كما ترون من كل جانب!
بَدَتْ لهم مدينةً جميلة من الداخل، وسيعة ومنظّمة بشكل مثالي، كل شيء فيها جميل ورائع، لا يكاد يعيبها شيء إلا هذه الجيوش المحاصِرة لها، وإلا هذه النظرة الزائغة التي تشيع على وجوه سكانها من الرجال والنساء والأطفال. لماذا يبدُون غير فرِحين في مدينتهم الجميلة الرائعة؟
رفع لبيب يده وسأل:
- ما علاقة هذه المدينة وقصتها بالحضارة المهددة التي نحن في جناحها؟
- ذلك اللغز الذي أريدكم أن تصلوا إلى حله بعد استماعكم للقصة!
أثار فضولهم أكثر بإجابته، فازدادوا شوقا للاستماع إلى قصته، واستحالوا بكل خلية في أجسامهم إلى آذان صاغية واعية لمقالته:
- قد علمتم خلال جولتكم أن الحضارات السابقة التي مررتم بأجنحتها قد سادتْ فترة من الزمن ثم بادتْ؛ إلا هذه الحضارة التي نحن بصددها، فهي مهددة بالسقوط ولكنها لم تسقط بعد، ويمكنكم أن تساهموا في دعمها واستمرار بقائها كي تمنعوها من السقوط والزوال! لأن حالها اليوم كحال هذه المدينة المصغَّرة التي تُواجه الجيوش من كل جانب، وتَكالب عليها الأعداء من كل حَدَب وصوب، من أبناء الحضارات البائدة التي سقطت وانتهتْ، وكأنهم غاظهم أن تستمرّ وحدها باقية صامدة دون حضاراتهم التي ينتمون إليها.
إنها حضارة راسخة في أصلها، قوية بما يكفي لأن تبقى صامدة وحدها رغم سُنَّة سقوط الحضارات وزوالها على مدار التاريخ البشري؛ لأنها قامت في الأصل كحال هذه المدينة على أساس متين لا يتزعزع. وذلك ما يعلمه عنها أعداؤها جيدا.
إن هذه المدينة محصّنة تحصينا شديدا، يحيط بها سور قوي محكم البناء متين البنيان، يستحيل إسقاطه واختراقه لولا أن حراسته ضعيفة مهزوزة بسبب تساهل الحرّاس القائمين عليه وغفلتهم وانصرافهم عن مهمتهم كما ترون.
وأعداء المدينة يحاصرونها بأسلحة قوية ومتنوعة، لكنها لا تقوى على اختراق سورهم المنيع؛ ومع ذلك تنجح في تجاوز السور من أعلاه إلى داخل المدينة، وتتوغّل فيها توغّلا، وتصيب بعض من فيها إصابات بالغة متنوعة، تُخلِّف بينهم قتلى وجرحى وأسرى. وهناك جنود من الأعداء يتسلَّلون من خلال الثغرات التي يُحدثها الجرحى من الحرّاس حين يتركون أماكنهم شاغرة.
وما أعجبَ حالَ أهلِ المدينة أنفسِهم! فرغم علمهم ويقينهم بحصار الأعداء لهم من كل جانب خارج أسوار مدينتهم إلا أنهم في لهوهم سادرون، وفي توافه الأمور وسفسافها منغمسون، وبمتابعة التافهين في وسائل التواصل مُغرَمون، وفي ملاحقة أخبار نجوم الفن والرياضة غارقون، وبخلافاتهم الداخلية منشغلون، وعلى فروقاتهم الطائفية والمذهبية والقبلية والحزبية يتنازعون، وحتى العلماء منهم والجادّون يتخاصمون، ولأجل مسائل اجتهادية يتدابرون، وآخرون منهم كتّاب ومثقفون، تستهويهم السياسة فيقعون في حُكَّامهم ويطعنون؛ وبالخيانة والعمالة يتّهمون، عِوضا عن الوقوف معهم صفا واحدا ضدّ من يتربص بهم من الأعداء ويترصدون.
وفوق هذا كله يتحاسدون على ما هم فيه من فضول القول والعمل، وسفاسف الأمر وتوافه الاهتمام. وما شاع الحسد في قوم إلا ذلّوا وهانوا بعد عزّ، وضعفوا بعد مَنَعة، وتباغضوا وتدابروا بعد توادّ وتراحم.
كل ذلك والمدينة محاصرة مهدّدة، والعدو محيط بها، والمؤونة تكاد تنفد، والهلاك منهم قاب قوسين أو أدنى، ولو أرادوا النَّجاءَ لأعدوا له عُدَّة ولكن!
والمدينة لا تخلو من عُدَّة يحتاجونها في الدفاع عنها ضد عدوهم؛ بل هي عُدّة تفوق أسلحة العدوّ عددا وقوة وفتكا، ولكنهم مع عُدَّتهم ما بين عاجز عن استعمالها يستثقل أن يتدرب عليها، وبين قادرٍ على استعمالها؛ لكنه متخاذل متقاعس لا يستنفر في الدفاع عن مدينته؛ طالما أن العدو لم يصل بعد إلى حريمه وولده من أهل بيته؛ ظنًا منه أن العدو لن يطاله مهما امتد بهم أمد الحصار والحرب!
فبالله عليكم: مدينة محاصرة مهددة هذه أحوال أهلها الغافلين عنها؛ كيف يطمعون في البقاء والاستمرار؟ أم كيف يأمنون من السقوط والانحدار؟ ولو أنهم تكاتفوا واستعملوا أسلحتهم بطريقة صحيحة لاستطاعوا أن يدحروا العدوّ، ويفكّوا الحصار عن مدينتهم.
وسكت الرجل وطأطأ رأسه، وكأنّ لمعة خاطفة برقتْ في عينيه. وانتظروا أن يكمل قصته، فلما طال بهم سكوته علموا أن قد بلغتْ قصتُه نهايتَها، فعادوا يتساءلون مجدَّدا:
- ما هذه المدينة المحاصَرة؟ أين تكون؟
تساءلوا جميعا في أنفسهم أولا، ثم بهمس فيما بينهم ثانيا، ثم بصوتٍ مسموعٍ متكررٍ ثالثا؛ كل ذلك والرجل ساكت ساكن لا يرفع رأسه ولا يتحرك، حتى صاح لبيب وقال:
- أظن القصة رمزية، وأظنك تقصد حضارة الإسلام، أليس كذلك؟
وهنا رفع الرجل رأسه وتبسَّم، أومأ للبيب موافقا وقال:
- بلى، أحسنت يا بني، ما اسمك؟
- اسمي لبيب.
- أنت لبيب كاسمك فعلا، لن تَخيب مدرسة فيها طلاب مثلك! نعم، القصة رمزية كما قلتَ، فمن يفكّ رموزها منكم مع لبيب؟
قال أحد الطلاب وقد أصابته الغَيرة من لبيب:
- سنحاول معه؛ لنثبت لك أن لبيبًا ليس هو الطالب الذكي وحده في مدرستنا.
- سنرى إذًا. فكّروا معي الآن: إلامَ يرمز سور المدينة الذي لا يمكن إسقاطه ولا اختراقه مهما أهمله الحرّاس وغفلوه عنه؟
أجاب طالب:
- بما أن المدينة هي الإسلام وحضارته، فسورها المنيع هو القرآن والسنة اللذان لا يمكن اختراقهما بأي حال من الأحوال.
قال الرجل:
- أحسنت يا بني! جعلك الله سورا منيعا للإسلام وأهله. فكّروا مجدَّدا: إلامَ ترمز أسلحة العدو التي يستخدمها لإصابة أهل المدينة؟
أجاب طالب بعد عدة محاولات غير موفقة من زملائه:
- ترمز إلى الشبهات والشهوات التي يسلّطها أعداء الإسلام على المسلمين.
- أحسنت، فإلامَ ترمز قدرة هذه الأسلحة على تجاوز السور المنيع؟
سكت الطلاب جميعا بعد محاولات عديدة عجزوا خلالها عن الوصول للإجابة الصحيحة، فقال أحد معلميهم بعد ما استأذن من الرجل:
- ترمز إلى استخدام الأعداء لكل أدوات التأثير - بما في ذلك وسائل الإعلام المختلفة – في بث الشبهات وإثارة الشهوات.
- أحسنت يا أستاذ، وإلامَ يرمز القتلى والأسرى والجرحى من ضحايا الأعداء؟
عاد لبيب يقول:
- أمّا القتلى فهم المرتدّون عن الإسلام والملحدون من أبنائه تأثّرا منهم بأطروحات الأعداء. وأمّا الأسرى فهم الشاكّون المتردّدون في الإسلام، وأمّا الجرحى فهم المفتونون بالشبهات والشهوات؛ لأنهم جرحوا بها صفاء إيمانهم.
- أحسنت يا لبيب. إلامَ يرمز الجنود المتسلِّلون إلى داخل المدينة؟
- ............
سكت الجميع -بعد محاولات عديدة غير موفقة- بمن فيهم المعلمون، فاضطُرَّ الرجل إلى أن يقول:
- إنهم يرمزون إلى الخَوَنة المأجورين المتآمرين مع العدو من الداخل كالليبراليين والعلمانيين؛ لأنهم ينخرون في المدينة من الداخل. ماذا بقي من رموز في القصة في رأيكم؟
أجاب الطالب الذي غار من لبيب:
- العُدَّة التي تمتلكها المدينة؟
- أحسنت، فإلام ترمز؟
- إلى نصوص القرآن والسنة لمن تعلّمهما وتفقّه فيهما.
- أحسنت أحسنت، أثبتّ فعلا أنت وزملاؤك أنكم أذكياء. فإلامَ يرمز المتقاعسون عن استخدام العُدَّة رغم قدرتهم وكفاءتهم؟
أجاب طالب لم يتكلم من قبل:
- إلى بعض العلماء وطلبة العلم الذين قدروا على استعمال سلاح القرآن والسنة ضد شبهات الأعداء وشهواتهم؛ ولكنهم تقاعسوا وتخاذلوا.
- أحسنتَ يا بُنيّ، وأخيرا تكلّمت. أشكركم جميعا. والآن أجيبوني: إلامَ هدفتُ بحكايتي لكم هذه القصة؟
أجابوه بصوت واحد بعد تفكير سريع:
- إلى أن نقوم قومة رجل واحد؛ للدفاع عن مدينتنا المحاصرة!
فسألهم الرجل سؤاله الأخير:
- فإن لم تفعلوا؟
- أجابوه مجددا بصوت واحد:
- سقطتْ حضارتنا المهددة؛ حضارة الإسلام الماجدة!
ثم خرجوا من المتحف يتردَّد في نفس كل منهم سؤال واحد: كيف أستطيع أن أدافع عن مدينتي المحاصَرة؛ فأنقذَ الحضارة المهددة؟
بينما شرع الرجل الموصَد بابُه في المتحف يكتب في مذكرته الخاصة: "ما أجمل أن تشعر أنك ابن وفيّ لحضارة إنسانية سامية، تستطيع أن تساهم بجهدك في إنقاذها مما يتهدّدها، قبل أن تسقط وتبيد مثل كل الحضارات البشرية البائدة!".