عنوان الخطبة: التغريب ومسخ الهُوية.
عناصر الخطبة:
١- التغريب ماهيَّته ونشأته وسببه.
٢- صور التَّغريب وعوامل انتشاره في بلاد المسلمين.
٣– نظرة الإسلام إلى علوم الغرب.
٤- كيف نواجه التغريب؟
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أكملَ لنا دينَهُ، وأتمَّ علينا نعمتَهُ، ورضيَ لنا الإسلامَ دينًا، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللَّهُ عليهِ وسلمَ تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ، فاتقوا اللَّهَ عبادَ اللَّهِ حقَّ التَّقوى، وراقبوهُ في السِّرِّ والنَّجوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
عبادَ الله:
«بِسْمِ اللَّهِ وَبِهِ بَدَيْنَا، وَلَوْ عَبَدْنَا غَيْرَهُ شَقِينَا، حَبَّذَا رَبًّا وَحَبَّذَا دِينًا».
بهذه الكلمات أخرجه الضياء في المختارة (٢١٥٩)، من حديث أنس، وصححه عبد الملك بن دهيش، وأخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده كما في بغية الباحث (٦٩٠)، من حديث أبي عثمان النهدي، وصححه الصوياني في الصحيح من أحاديث السيرة (ص٣١٨) (١) أعلنَ النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ وهو يحفِرُ الخندقَ مع أصحابِهِ.
رَغْم أنَّ الأخبارَ جاءتْ بتحرُّكِ جحافلِ الكفّارِ للقضاءِ على الإسلامِ وأهلِهِ في المدينةِ المنوَّرةِ، والمنافقونَ يُرجِفونَ في المدينةِ، والخَطْبُ عظيمٌ، كان النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ قائمًا بين أصحابِهِ كالجبلِ الأشَمِّ، يحملُ مِعْوَلَهُ، يحفِرُ الخندقَ معتزًّا بدينِهِ، فخورًا بعبوديَّتِهِ لربِّهِ، موقنًا بقولِ ربِّهِ: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[آل عمران: ١٣٩].
عبادَ الله:
لمّا جاءَ اللهُ بالإسلامِ وكمالِهِ، باتَ مستقرًّا عندَ الصحابةِ ومَن بعدَهم أنَّهُمُ الأعلَونَ بما هم عليهِ مِنَ الإيمانِ والعملِ بدينِ الإسلامِ، ثمَّ توالتِ السِّنونَ وأعزَّ اللهُ المسلمينَ، ففُتِحَ عليهم بلادُ فارسَ والرُّومِ، وصارت دولةُ الإسلامِ دولةً مجيدةً في أوجِ الحضارةِ، لها العزَّةُ والسيادةُ على سائرِ الأممِ، بينما كان غيرُهم يعيشُ في عصورٍ من الظلمِ والتخلُّفِ والظلامِ، ثم توالتِ السِّنونَ وبدأت تُنقَضُ عُرى الإسلامِ، وتخلَّى المسلمونَ عن منهجِ الإسلامِ في حياتِهم شيئًا فشيئًا، حتَّى ضعُفَ المسلمونَ، وتخلَّفوا عن رَكبِ الحضارةِ، واجتاحَ الكفّارُ بلادَهم، فسفكوا دماءَهم، وانتهكوا أعراضَهم، ومزَّقوا بلادَهم، ونهبوا خيراتِهم، ثمَّ توالتِ السِّنونَ، وعادت تلكَ الجيوشُ إلى بلادِها تاركةً أذنابَها وعُمَلاءَها يُفسدون في الأرضِ بعد صلاحِها.
في هذهِ الآونةِ، كان الغربُ قد ثارَ على ظلمِ الكنائسِ وطغيانِ الملوكِ والنُّبلاءِ، فنبذوا أديانَهمُ المحرَّفةَ وراءَهم ظِهْريًّا، وألَّهُوا عقولَهم وأهواءَهم، واستغنَوا عن اللهِ والإيمانِ بهِ، وقامت ثورةٌ صناعيَّةٌ، وتوحَّشَت الرَّأسَماليَّةُ، وصارَ لكلِّ شيءٍ ثمنٌ يُقاسُ بهِ، حتى الإنسانُ يُباعُ ويُشترىٰ، وتنادَوا بالتحرُّرِ من كلِّ قيودِ الدِّينِ والأعرافِ والفطرةِ، يُنادون بالحريَّةِ -فقط- للوصولِ إلى كلِّ ما تهواهُ النفوسُ؛ ليُلحِدَ من شاءَ، ولِيعبُدَ أو يفعلَ من شاءَ ما شاءَ.
ابتنىٰ الغربُ حضارةً ماديَّةً جديدةً، في ظاهرِها تقدُّمٌ صناعيٌّ وماديٌّ، لكن في حقيقتِها خَواءُ الرُّوحِ وموتُ النفوسِ، عبوديَّةٌ للشَّهواتِ والملذَّاتِ، إنسانٌ كآلةٍ، يعيشُ كي يستمتعَ بدنياهُ، نفعيٌّ أنانيٌّ لا يُحرِّكُهُ سوى المصلحةِ، يستبيحُ كلَّ شيءٍ للوصولِ إلى ما فيه إشباعُ رغَباتِهِ.
واستفاقَ المسلمونَ في وقتٍ من غفلتِهم عن دينِهم، علىٰ ماردٍ غربيٍّ فاقَهُم صناعيًّا ومادِّيًّا، ووجدوا بلادَهم تئنُّ علىٰ إثرِ استعمارٍ مَقيتٍ، نهبَ كلَّ خيراتِهم، ومزَّقَهُم شرَّ مُمزَّقٍ إلى دُوَيلاتٍ متناحرةٍ.
وهنا كانت الكارثة:
إنها الهزيمةُ النَّفسيَّةُ، والانسحاقُ الحضاريُّ، والقابليَّةُ للاستعمارِ الفكريِّ من كلِّ واردٍ منَ الماردِ الغربيِّ، الذي صنعَ الطائراتِ والغوّاصاتِ، وغزا الفضاءَ، وصنعَ القنابلَ النَّوويَّةَ.
يقولُ ابنُ خَلْدونَ رحمه الله: "المغلوبُ مولَعٌ أبدًا بالاقتداءِ بالغالبِ، في شعارِهِ وزِيِّهِ ونِحلَتِهِ، وسائرِ أحوالِهِ وعوائدِهِ". اهـ مقدمة ابن خلدون (ص٧٣). (٢)
حينئذٍ قام الجاهلونُ وأذنابُ الغربِ والمنافقونَ يُنادونَ بالتَّبَعيَّةِ المُطلقةِ للغربِ في كلِّ شيءٍ.
تغريبٌ تامٌّ، ومحاولةٌ لصَبغِ المجتمعاتِ الإسلاميةِ بالصِّبغةِ الغربيَّةِ، وتحويلِها إلى النَّموذجِ الغربيِّ في كلِّ شؤونِ الحياةِ، تبعيَّةٌ وتقليدٌ أعمى للغربِ في معتقداتِهِ، وأفكارِهِ، وثقافتِهِ، ومناهجِ تعليمِهِ، في سياستِهِ واقتصادِهِ، وحياتِهِ الاجتماعيَّةِ، بل حتىٰ في اللِّباسِ والطَّعامِ، واللُّغةِ، وطريقةِ الحياةِ، ما تركوا شيئًا عليهِ الغربُ إلَّا وصاحوا بكلِّ سبيلٍ: أنْ هلمُّوا إلى التَّقدُّمِ والرُّقيِّ.
حتىٰ صِرتَ متىٰ يمَّمتَ وجهَكَ رأيتَ تغريبًا في العقائدِ، بالدَّعوةِ إلى الإلحادِ، أو الخروجِ عن العبوديَّةِ للهِ، أو وَحْدةِ الأديانِ، أو تقارُبِها وإلغاءِ الفوارقِ بينَ الإسلامِ واليهوديَّةِ والنَّصرانيَّةِ، أو بإنكارِ الغيبياتِ التي جاءتْ في القرآنِ والسُّنَّةِ بحجَّةِ أنَّها لا توافقُ العقلَ.
وترىٰ تغريبًا في الأفكارِ والمناهجِ، بالدَّعوةِ إلى تأليهِ العقلِ ونبذِ ما سواهُ، وبتمجيدِ فلاسفتِهم ومفكِّريهِم، وتقديسِ أقوالِهِم، وتقديمِ نظريَّاتِهِم كأنَّها وحيٌ معصومٌ.
يُردِّدونَ على الأسماعِ المصطلحاتِ الرَّنَّانةَ التي بنىٰ عليها الغربُ فِكرَهُ وأُطروحاتِه، مثلَ: الحرِّيَّة، والعقلانيَّة، والديمقراطيَّة، والليبراليَّة، والتَّنوير، والمساواة، والمواطَنة، والتَّسامح، وحقوقِ المرأة، وتمكينِ المرأة، والنِّسْويَّة، والتَّعدُّديَّة، وهكذا قائمةٌ من المصطلحاتِ البرّاقةِ التي تنخدعُ بها الجماهيرُ.
صِرتَ ترى تغريبًا في السِّياسةِ، حيثُ يُقدَّم النَّموذَجُ الغربيُّ العَلمانيُّ الذي نحَّى الدينَ عن الحياةِ والحُكمِ، على أنَّهُ سبيلُ الخلاصِ، وأنَّ الدِّينَ محلُّهُ المسجدُ فقط، وهو علاقةٌ بين العبدِ وربِّهِ، لا دخلَ لهُ بالحياةِ.
وترى تغريبًا في التَّعليمِ، مدارسُ وجامعاتٌ مختلِطةٌ، ومناهجُ تُدرَّسُ فيها نظريَّةُ التَّطوُّرِ الباطلةُ، وتُغرَسُ في قلوبِ الطَّلَبةِ الفلسفاتُ الغربيَّةُ حول الإنسانِ والاجتماعِ والسياسةِ والاقتصادِ، دونَ نقدِها أو بيانِ باطلِها.
وترى تغريبًا في الاقتصادِ، حيث يُبنى اقتصادٌ قائمٌ على الرِّبا والميسِرِ والمعاملاتِ المحرَّمةِ، ويُقدَّم هذا للناسِ على أنَّهُ لا خلاصَ لنا إلَّا بذلك النَّموذجِ الرِّبَويِّ الفاحشِ، والرَّأْسَماليِّ الظالمِ.
وترى تغريبًا في الحياةِ الاجتماعيَّةِ، حيث يُرادُ للأسرةِ المسلمةِ أن تتخلَّى عن دينِها وترابُطِها، إلى ذاك النَّموذجِ المتفكِّكِ، حيث الانفلاتُ الأخلاقيُّ، وإقامةُ العلاقاتِ المحرَّمةِ قبل الزواجِ، مع إغراءِ الأبناءِ بالتحرُّرِ من سلطةِ الآباءِ.
وترى تغريبًا في اللُّغةِ، حيث صارت علامةُ التقدُّمِ الحديثَ باللغاتِ الأجنبيَّةِ، وباتَ المتكلِّمُ بالعربيَّةِ رجعيًّا متخلِّفًا، فقامَ الناسُ يُنشِئونَ الأطفالَ في الرابعةِ من عمُرِهم على اللُّغاتِ الغربيَّةِ، بل يُسمُّون أطفالَهم ومحلاتِهم وأطعمتَهم وثيابَهم وألوانَهم بغيرِ لغةِ القرآنِ التي شرَّفهم اللهُ بها.
ويا أسفَىٰ على أجيالٍ معها مشاعلُ النورِ، ثم تنأىٰ إلى الظلامِ، وأنَّىٰ لمسلمٍ يقفُ بينَ يدي ربِّهِ كلَّ يومٍ في صلاتِهِ تاليًا، سائلًا ربَّهُ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة: ٦-٧]، ثم يصطبِغ بصِبغتهم ويهتدي بضلالهم.
ألم يَقُلِ اللهُ تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ[الجاثية: ١٨].
ولقد أدَّى لانتشارِ التغريبِ بين المسلمينَ عدَّةُ عواملَ، لعلَّ أهمَّها:
الاستعمارُ الذي جثمَ على بلادِ المسلمينَ عشَراتِ السِّنينَ، فمزَّق كُبَراؤه الدُّوَلَ الإسلاميَّةَ بينهم كالتَّركةِ المغصوبةِ، ثم باتتْ كلُّ دولةٍ تنشُرُ فيما احتلَّته مبادئَها وثقافتَها، حتى إنَّ بعضَ بلادِ المسلمينَ إلى اليومِ –رَغمَ زوالِ المحتلِّ البغيضِ- لا يزالُ أبناؤُها لا يكادونَ ينطقونَ إلا بلسانِ أعدائِها.
وكذلك الابتعاثُ يُعَدُّ من أخطرِ أدواتِ التغريبِ، حيث تُرسَلُ البِعْثاتُ العِلميَّةُ إلى البلادِ الغربيَّةِ بُغيةَ تحصيلِ العلومِ، إلَّا أنَّهُ ما إنْ يعودُ أولئك إلى أوطانِهِم حتىٰ يبثُّوا في الناسِ التغريبَ بكلِّ أشكالِهِ وصورِهِ.
وكذلك استغلَّ القائمونَ على التَّغريبِ في بلادِ المسلمينَ المدارسَ والجامعاتِ الأجنبيَّةَ لتنشئةِ أجيالٍ لا تنتمي إلَّا إلى الغربِ الكافرِ بثقافتِهِ وقيَمِهِ الفاسدةِ، وملكوا زِمامَ الإعلامِ، فصارتِ الأفلامُ والمسلسلاتُ والرِّواياتُ وأفلامُ الكَرْتونِ أبواقًا لتغريبِ الحياةِ ومسخِها بصورةِ المجتمعاتِ الغربيَّةِ البائسةِ.
عبادَ الله:
إن النبيَّ ﷺ حذّرَ أمّتهُ من سلوكِ سبيلِ الأممِ الضالّة، فقال: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»، قال الصحابة: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ». صحيح البخاري (٣٤٥٦)، وصحيح مسلم (٢٦٦٩)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (٣)
ماذا تُغني علومُ الدنيا إن ضلَّ الإنسانُ عن ربِّهِ، ولم يؤمنْ بهِ وبشريعتِهِ؟
لقد حدَّثَنا اللهُ عن حضاراتٍ بائدةٍ، يعلمونَ ظاهرًا منَ الحياةِ الدنيا، مَكَّنهمُ اللهُ منَ الدنيا، إلَّا أنَّهُم كفروا باللهِ العظيمِ، فرحوا بما عندهم من العلم، وقالوا: مَن أشدُّ منَّا قوَّة؟ وتجبَّروا في الأرضِ بغيرِ الحقِّ، فأهلكهمُ اللهُ، ومزَّقهم شرَّ مُمزَّقٍ، وما ربُّكَ بظلامٍ للعبيدِ.
قال الله سبحانه: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ[غافر: ٨٢-٨٣].
لقد كانَ الواجبُ علينا أنْ ننظرَ في علومِهم، وننتقيَ منها ما كان نافعًا من العلومِ التَّطبيقيَّة، دون ما خالفَ شريعتَنا من أفكارٍ وفلسَفاتٍ، ثمَّ نُترجمَ تلكَ العلومَ النافعةَ إلى لسانِنا العربيِّ، ثمَّ نعلِّمَها أبناءَنا، ونُيَسِّرَ لهم سُبُلَها؛ ليجعلوها أصلًا يَبْنون عليهِ النَّهضةَ والتقدُّمَ الدُّنيويَّ، علىٰ ما يُوافقُ دينَنا وأخلاقَنا.
إنَّ الإسلامَ لا يرُدُّ الحقَّ ما دام أنَّهُ حقٌّ، فإنَّ النبيَّ ﷺ لمَّا أشارَ عليهِ سلمانُ الفارسيُّ بحفرِ الخندقِ، وهو أمرٌ كانت تفعلهُ فارسُ، أخذَ برأيِهِ واستفادَ منهُ، وإنَّ الحكمةَ ضالَّةُ المؤمنِ، والحقُّ أحقُّ أن يُتَّبعَ.
باركَ اللهُ لي ولكُم في القرآنِ العظيمِ، ونَفَعني وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، وأَستغفرُ اللهَ لي ولكُم فاستغفِروهُ، إنَّه هو الغَفورُ الرّحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رَسُولِ الله، وعلى آلِهِ وصَحبِهِ ومَن والاهُ، وبعد:
في ذاتِ يومٍ أَتَى عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه النَّبِيَّ ﷺ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتابِ، فَقَرَأَهُ النَّبِيُّ ﷺ فَغَضِبَ فَقَالَ: «أَمُتَهَوِّكُونَ (أي أمُتحيّرون) فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى ﷺ كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي». مسند أحمد (١٥١٥٦)، من حديث جابر رضي الله عنه، وحسنه الألباني في إرواء الغليل (١٥٨٩). (٤)
لقد أكملَ اللهُ لنا الدينَ، وتركَنا نبيُّنا ﷺ على المحجَّةِ البيضاءِ النَّقيَّةِ، وحيٌ معصومٌ، ودينٌ قويمٌ شاملٌ، لا ترى فيهِ عِوَجًا ولا ظُلمًا، لا نحتاجُ معهُ إلى فلسفاتِ الغربِ، ولا إلى نظريَّاتِ الشَّرقِ.
إنَّنا لا يمكنُ أنْ نُدرِكَ كمالَ الشَّريعةِ وعدلَها إلَّا إذا نظرنا إلى صورتِها الكاملةِ ومنظومتِها الشاملةِ لكلِّ شيءٍ، صورةٍ تجمعُ الحقوقَ والواجباتِ، ففي الإسلامِ النظامُ الكاملُ والعادلُ في شتّى شؤونِ الحياةِ، للإسلامِ منهجٌ ونظامٌ في الاقتصادِ، ومنهجٌ ونظامٌ اجتماعيٌّ، ومنهجٌ ونظامٌ تربويٌّ، ومنهجٌ ونظامٌ سياسيٌّ، وأيُّ خللٍ في حياتِنا فإنَّما كانَ لأنَّنا أعرضْنا عن هذا المنهجِ الرَّبانيِّ المعصومِ.
إنَّ أعظمَ ما نُواجهُ به التَّغريبَ هو معرفةُ الحقِّ الذي جاءَ به الإسلامُ، والفخرُ والاعتزازُ به، ثمَّ نشرُهُ وتعليمُهُ وتطبيقُهُ صافيًا جليًّا واضحًا.
قال الله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[الأنعام: ١٥٣].
اللَّهُمَّ انصُرِ الإسلامَ وأعِزَّ المسلمينَ، وأهْلِكِ اليهودَ المجرمينَ، اللَّهُمَّ وأنزِلِ السَّكينةَ في قلوبِ المجاهدينَ في سبيلِكَ، ونَجِّ عبادَكَ المستضعَفينَ، وارفعْ رايةَ الدِّينِ، بقُوَّتِكَ يا قويُّ يا متينُ.
اللّهُمَّ آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلِحْ أئمَّتَنا ووُلاةَ أمورِنا، واجعل وِلايتَنا فيمن خافَكَ واتّقاكَ واتّبعَ رِضاك.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.