عنوان الخطبة: شريعة العدل، وإرجاف الخفافيش.
عناصر الخطبة:
١- كارهو الشريعة المفسدون.
٢- شريعة الله حياة العدل وصيانة الحقوق.
٣– المعرضون عن الشريعة وثلاثية الضلال.
٤- لماذا كره خفافيش الفساد شريعة الله؟
الحمدُ للهِ الذي خلقَ الإنسانَ فأبدَعَهُ، وشرَعَ الدِّينَ فأحكَمَهُ، وقضى بالعدلِ وأظهرَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ، فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ حقَّ التَّقوى، وراقبوهُ في السِّرِّ والنَّجوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
عبادَ الله:
«لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَا يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ».
تلكمُ الكلماتُ التي تستحقُّ أنْ توضعَ نِبراسًا لقَداسةِ الأممِ، قالها نبيُّنا محمدٌ ﷺ، أحقُّ أهلِ الأرضِ بالعدلِ والرَّحمةِ.
جَاءَه أَعْرَابِيٌّ يومًا يَتَقاضَاهُ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ، فَاشْتَدَّ الرَّجلُ عَلَيْهِ، حَتَّى قَالَ لَهُ: أُحَرِّجُ عَلَيْكَ إِلَّا قَضَيْتَنِي! فَانْتَهَرَهُ أَصْحَابُ النَّبيِّ ﷺ، وَقَالُوا: وَيْحَكَ تَدْرِي مَنْ تُكَلِّمُ؟ قَالَ: إِنِّي أَطْلُبُ حَقِّي، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «هَلَّا مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ كُنْتُمْ؟»، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، فَقَالَ لَهَا: «إِنْ كَانَ عِنْدَكِ تَمْرٌ فَأَقْرِضِينَا حَتَّى يَأْتِيَنَا تَمْرُنَا فَنَقْضِيَكِ»، فَقَالَتْ: نَعَمْ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَأَقْرَضَتْهُ، فَقَضَى الْأَعْرَابِيَّ وَأَطْعَمَهُ، فَقَالَ: أَوْفَيْتَ، أَوْفَى اللَّهُ لَكَ، فَقَالَ ﷺ: «أُولَئِكَ خِيَارُ النَّاسِ، إِنَّهُ لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَا يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ» (يعني: مِن غَيرِ أَن يُصيبَه أذىً يُزعِجُه). سنن ابن ماجه (٢٤٢٦) من حديث أبي سعيد الخدري، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (١٩٦٩). (١).
أيُّ أُمَّةٍ تلكَ التي يُقدِّسُها اللهُ، ويرفعُ شأنَها، ويُعلي مقامَها، والضَّعيفُ فيها مقصومٌ ظهرُهُ، مهضومٌ حقُّهُ، محبوسٌ لسانُهُ؟
ما أشقى الأممَ عندما تغيبُ عنها شريعةُ اللهِ، ويحِلُّ مكانَها أهواءُ البشرِ، بمناهجِهِم وأفكارِهِم، ويُحاربون شريعةَ الرحمنِ الهاديةِ العادلةِ، فلا ترى إلَّا ظُلمَ المجرمينَ، الآكلي حقوقِ الخَلْقِ، الماصِّينَ لدمائِهِم، المتاجرينَ بآلامِهِم.
يظلُّ هؤلاءِ يعيثونَ في الأرضِ فسادًا، يُفسدونَ دينَ الخَلْقِ ودنياهم، يُنَحُّونَ شريعةَ الإسلامِ عن الحياةِ، بعَلْمانيةٍ جاهلةٍ ظالمةٍ، وأيُّ ظلمٍ أعظمُ من أنْ يجعلَ الإنسانُ نفسَهُ ندًّا للهِ؟ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ.
يعبَثُونَ بالدِّينِ، فيجعلونهُ علاقةً شخصيةً بينَ الإنسانِ وربِّهِ، ويمنعونَ إقامةَ العبوديةِ للهِ في الأرضِ كما أمرَ وشَرَعَ، فينتَقُونَ من دينِهِ ما يُوافقُ هواهُم، ويستبيحونَ الفواحشَ، ويُشرِّعُونَ الفسادَ، ويُؤسِّسُونَ الظُّلمَ، ثم يتبجَّحونَ برفعِ رايةِ الإصلاحِ، تحتَ اسمِ التَّحضُّرِ والحُرّيةِ والإنسانيةِ، وهم إنّما يتّبعونَ أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، يسعَونَ بكلِّ سبيلٍ لإطفاءِ نورِ الحقِّ وإسكاتِ صَوتِهِ، تشمِئزُّ قلوبُهُم من سماعِ آياتِ القرآنِ وأحكامِهِ، نَهَبُوا أموالَ المساكينِ، وزَجُّوا مئاتِ آلافِ الأبرياءِ في غَياهبِ السُّجونِ، ثمّ مَحَوا أضعافَهُم من سجِلّاتِ الـحَياةِ في المقابرِ الجماعيّةِ، ألا شاهَتْ وُجُوهُ الـمُجرِمينَ!
ثمَّ يأتي أذنابُهُم وأبواقُهُم ليُحدِّثوا الناسَ عن ظلاميَّةِ الشَّريعةِ الربانيةِ، وتخلُّفِ أحكامِها عن التَّقدُّمِ، ويتَّهمونَها بالرَّجعيةِ، وأنَّ تطبيقَها معارِضٌ للحقوقِ الإنسانيّةِ، مَثَلُهُم كمَثَلِ فرعونَ الذي ذَبَحَ الأطفالَ في وضَحِ النهارِ، ثمَّ قامَ واعظًا ليُحدِّثَ الناسَ بكلِّ شَّفقةٍ عن الإصلاحِ، قائلًا: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ[غافر: ٢٦].
عباد الله:
إنَّ اللهَ سبحانهُ خالقُ الإنسانِ، هو العليمُ الحكيمُ، الحقُّ العَدلُ، الرَّحمنُ الذي وسِعَتْ رحمتُهُ كلَّ شيءٍ، نورُ السماواتِ والأرضِ، لا يقولُ ولا يحْكمُ ولا يَشْرَعُ، إلّا بعلمِهِ وحِكمتِهِ وعدلِهِ ورحمتِهِ.
هذهِ الشَّريعةُ كلُّها حقٌّ، ونزلَتْ بالحقِّ، ليسَ فيها ذرَّةُ باطلٍ، قال الله تعالى: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا[الإسراء: ١٠٥].
هذهِ الشريعةُ كلُّها نورٌ، يُخرِجُ اللهُ بها خلقَهُ مِن ظُلُماتِ الظُّلمِ، وظُلُماتِ الجهلِ، وظُلماتِ الهوى، وظلماتِ الطُّغيانِ.
هذهِ الشريعةُ هي مصدرُ الحياةِ الطيِّبةِ، لا تطيبُ حياةُ الناسِ إلَّا بها، ومتى غابتْ فلنْ ترى إلَّا عبادةَ الأهواءِ، وتأليهَ الإنسانِ، وفسادَ القلوبِ والأرواحِ والأبدانِ، وتغييبَ العقولِ، وهَتْكَ الأعراضِ، ولنْ ترى إلَّا صناعةَ الموتِ والدَّمارِ والسُّقوطِ، حتى وهُمْ يُقدِّمونَ للناسِ -زورًا- أسبابَ الحياةِ!
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ[الأنفال: ٢٤].
وقال سبحانه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[الشورى: ٥٢].
هذه الشريعةُ التي قامت بالعَدْل، لا يُظلَم فيها مخلوقٌ مثقالَ ذرَّة.
الرَّبُّ سبحانَه الذي شرع الدين القويمَ يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا[النساء: ٥٨].
العدلُ الذي شرعَهُ اللهُ، وبهِ قامتِ السماواتُ والأرضُ، بهِ ازدانت كُلُّ أحكامِ الشريعةِ.
أحكامٌ عادلة، تَبسُطُ على كلِّ النّاسِ الخيرَ بالعدلِ، يستوي في ذلكَ القريبُ والبعيدُ، والحبيبُ والبغيضُ، لا يُظلَمُ في ظلِّها أحدٌ، ولو كانَ عدوًّا بغيضًا.
ها هو عبدُ اللهِ بنُ رَواحةَ -رضيَ اللهُ عنهُ- يُرسِلُهُ النبيُّ ﷺ إلى اليَهودِ ليُقَدِّرَ ثمَرَ خَيبرَ، ولكنَّهم كعادَتِهِم أكّالُونَ للسُّحتِ ويَظنُّونَ كلَّ الخَلقِ مثلَهُم، فجمَعُوا لهُ ذَهَبًا يَرشُونَهُ بهِ، حتّى لا يُعطُوا الحقَّ الذي علَيهِم، فقالَ لهُم: «يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ أَتُطْعِمُونِي السُّحْتَ؟ وَاللَّهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيّ، وَلَأَنْتُمْ أبْغض النَّاس إَلَيَّ مِنْ عِدَّتِكُمْ مِنَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَلا يَحْمِلُنِي بُغْضِي إِيَّاكُمْ وَحُبِّي إِيَّاهُ عَلَى ألّا أَعْدِلَ عَلَيْكُمْ»، فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ! صحيح ابن حبان (٥١٩٩) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه الألباني في صحيح موارد الظمآن (١٤١٥). (٢).
هذهِ الشريعةُ الهاديةُ التي صانَت حقوقَ الخَلقِ، كُلِّ الخلقِ، لقد وضعَ الإسلامُ حقوقًا للوالدَينِ على الأولادِ، وحقوقًا للأولادِ على الوالدَينِ، وحقوقًا للرعيّةِ على الرّاعي، وحقوقًا للرّاعي على الرعيّةِ، وحقوقًا للزَّوجِ على زوجتِهِ، وحقوقًا للزَّوجةِ على زوجِها، وحقوقًا للفقراءِ على الأغنياءِ، وحقوقًا للأقاربِ وذوي الأرحامِ، وحقوقًا للجيرانِ، وحقوقًا لليتامى والأراملِ والمساكينِ، وحقوقًا للمرضى والـمُسنّينَ والضعفاءِ، وحقوقًا للعُمّالِ والموظَّفينَ، وحقوقًا للمتَّهمينَ بل والمسجونينَ، بل وضعتْ حقوقًا لأهلِ الذِّمةِ والمستأمِنينَ، بل وضعتْ حقوقًا للحيوانِ البهيمِ.
صانَت حقَّ الإنسانِ في الحياةِ، صانَتِ الدماءَ والأعراضَ والأموالَ والعقولَ.
في ذات يوم مرَّ هِشَامُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَلَى أُنَاسٍ مِنَ الْأَنْبَاطِ بِالشَّامِ، قَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ، فَقَالَ: مَا شَأْنُهُمْ؟ قَالُوا: حُبِسُوا فِي الجِزيَةِ (يَعنِي: لعَدَمِ دَفعِهِمُ الجِزيَة)، فَقَالَ هِشَامٌ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا». صحيح مسلم (٢٦١٣)، من حديث هشام بن حكيم. (٣).
إنَّ اللهَ سبحانه أخبرَنا عن أولئكَ الكارهينَ لشريعةِ اللهِ، أنَّهم على إحدى خِصالٍ ثلاثةٍ، فقال: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ[النور: ٤٦-٥٢].
إنَّ كراهيَةَ الشَّريعةِ وتخويفَ النَّاسِ منها: إمَّا شكٌّ في حُكمِ اللهِ، وإمّا نِفاقٌ، وإمّا خوفٌ من وقوعِ الظُّلمِ إنْ حَكمتِ الشريعةُ حياةَ الناسِ! وليتَ شِعري، هلْ ثمَّةَ عدلٌ إنْ غابتْ شريعةُ اللهِ؟!
واللهِ إنَّهُ الضَّنْكُ والـجَحيمُ إنْ غابتْ شريعةُ ربِّ العالمينَ القائِل: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى[طه: ١٢٦-١٢٧].
باركَ اللهُ لي ولكُم في القرآنِ العظيمِ، ونَفَعني وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، وأَستغفرُ اللهَ لي ولكُم فاستغفِروهُ، إنَّه هو الغَفورُ الرّحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رَسُولِ الله، وعلى آلِهِ وصَحبِهِ ومَن والاهُ، وبعد:
فيا عبد الله:
أتدري أينَ العِلَّةُ الحقيقيةُ التي كرهوا لأجلِها دينَ اللهِ، ولأجلِها يُخَوِّفونَ الناسَ من شريعةِ اللهِ؟
العلَّةُ هنا كما كانتْ في مجرمي كلِّ الأممِ، قالها اليهودُ للنبيِّ ﷺ عندما سألَهُم عن تغييرِ رَجمِ الزّاني إلى الـجَلدِ وتسويدِ الوجهِ بالفحمِ، قالوا: كَثُرَ (أي الزِّنى) فِي أَشْرَافِنَا، فَكُنَّا إِذَا أَخَذْنَا الشَّرِيفَ تَرَكْنَاهُ، وَإِذَا أَخَذْنَا الضَّعِيفَ أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ، قُلْنَا: تَعَالَوْا فَلْنَجْتَمِعْ عَلَى شَيْءٍ نُقِيمُهُ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ، فَجَعَلْنَا التَّحْمِيمَ وَالْجَلْدَ مَكَانَ الرَّجْمِ. صحيح مسلم (١٧٠٠). (٤).
عندما تُخالِفُ أحكامُ الشَّريعةِ أهواءَ الخلقِ، فلا بُدَّ أنْ يكرهَها المجرمونَ.
أخبرني بربِّك: متى تُحبُّ الخفافيشُ النورَ؟ ومتى يرضى القتَلةُ بالقِصاصِ العادلِ؟ وهل يطمئنُّ اللُّصوصُ بمنعِ الفسادِ؟ وهل يستمتعُ الخُبَثاءُ بمنعِ الفواحشِ والخمورِ؟
يقول النَّبيُّ ﷺ: «إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمُ، اخْتَرَعُوا كِتَابًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمُ، اسْتَهْوَتْهُ قُلُوبُهُمْ، واسْتَحْلَتْهُ أَلْسِنَتُهُمْ، وَكَانَ الْحَقُّ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ كَثِيرٍ مِنْ شَهَوَاتِهِمْ، حَتَّى نَبَذُوا كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ». شعب الإيمان (٧١٨٣)، من حديث عبد الله بن مسعود، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (٢٦٩٤). (٥)
أما واللهِ لا أحْكَمَ ولا أحسنَ ولا أكملَ من حُكمِ اللهِ الخبيرِ، الذي قال: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ[المائدة: ٥٠].
إنَّ عُنوانَ حياةِ المؤمنِ باللهِ ربًّا وبحُكمهِ مَنْهَجًا: التَّسليمُ والانقيادُ كما قال الله: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[النساء: ٦٥].
ورضيَ اللهُ عن الأصحابِ الأطهارِ الذين قالوا: «نهَانَا رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا، وَطَوَاعِيَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ أَنْفَعُ لَنَا». رواه مسلم([٦]).
اللَّهُمَّ انصرِ الإسلامَ وأعِزَّ المسلمينَ، وأهْلِكِ اليهودَ المجرمينَ، اللَّهُمَّ وأنزِلِ السَّكينةَ في قلوبِ المجاهدينَ في سبيلِكَ، ونَجِّ عبادَكَ المستضعَفينَ، وارفعْ رايةَ الدِّينِ، بقوَّتِكَ يا قويُّ يا متينُ.
اللّهُمَّ آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلِحْ أئمَّتَنا ووُلاةَ أمورِنا، واجعل وِلايتَنا فيمن خافَكَ واتّقاكَ واتّبعَ رِضاك.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.