عنوان الخطبة: داء الجهل
عناصر الخطبة:
١- أشرف العلوم العلم بالله وبأخباره وأحكامه.
٢- خطورة الجهل.
٣- انتشار الجهل في هذا الزمان.
٤- ذِكر بعض صُوَر الجهل.
٥- أسباب انتشار الجهل.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فاتقُوا اللهَ عبادَ اللهِ وراقِبُوه، وأطيعُوه ولا تَعصُوه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
إخوةَ الإسلام:
لـمّا خَلَقَ اللهُ أبانا آدمَ علّمَه الأسماءَ كلَّها، فأظهرَ شرَفَه ورفعَ منزلتَه بما علّمَه، ثمّ أَسْجَدَ له الملائكة، فبِالعلمِ يرفعُ اللهُ مَن شاءَ مِن عبادِه: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ.
وأشرفُ العلومِ وأعلاها، وأهمُّها وأولاها، هو العلمُ باللهِ تعالى وصفاتِه، وبأخبارِه وأحكامِه، فهذا العلمُ هو الذي يُنجِي العِبادَ، وهو الذي بَعَثَ اللهُ به الرُّسُل، وأنزلَ الكُتُب.
وإنّ مِن أخطرِ الأمراضِ التي تُصيبُ العقولَ والقلوبَ الجهلَ بالدّين، فإنّ الجهلَ داءٌ دَفِين، يُشقي الإنسانَ، ويجعلُه سهلَ القِيَادِ للشيطان، وقد يَسْتَفْحِلُ به هذا المرضُ إن لـمْ يَسْعَ في شفائِه حتى يموتَ قلبُه. وشفاءُ هذا المرضِ بالإقبالِ على العلمِ، كما قال ﷺ: «ألَا سَأَلُوا إِذَا لَـمْ يَعْلَمُوا؟ فَإِنّما شِفاءُ العِيِّ السُّؤَال؟».
إخوةَ الإيمان:
إنّ نهايةَ الجَهلِ وَخِيمَة، وعاقبتَه أليمة، فكم مِن جاهلٍ أَفْسَدَ وهُو يُريدُ الإصلاح، وخَرَّبَ وهُو يقصدُ التَّعْمِير، كم مِن رفيعِ نَسَبٍ خَفَضَهُ الجهل، وكم مِن عزيزِ قومٍ ذلَّ بالجهل، وأسوأُ الجهلِ أن يجهلَ العبدُ قيمتَه وعملَه ومصيرَه، فإنَّ الجاهلَ يتصوّرُ الأمورَ على غيرِ حقيقتِها، يحسبُ أنه مُهتدٍ وهو ضالّ، ويحسبُ أنّه ناجٍ وهو هالِك، ويحسب أنّه قريبٌ إلى اللهِ ولعله مَطرودٌ مِن رحمةِ الله، فأعمالُه في الدّنيا كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ.
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا.
إخوةَ الإسلام: معَ زوالِ الأمِّيَّةِ وكثرةِ المطبوعاتِ ودُور النّشر ووسائلِ الإعلامِ والتعليم، ظنّ كثيرون أنّ الجهلَ قدِ اختفى، والحقيقةُ أنّ الجهلَ في زمانِنا قد انتَشَرَ وفَشَا، فإنّ الجهلَ ليس هو العجزَ عن القراءة، إذْ قدْ يقرأُ المرءُ ويكتبُ ويفهمُ الخِطَابَ، وربّـما يُحسِنُ عددًا مِن اللغَات، لكنّه جاهل! جاهلٌ في تصوّراتِه وقناعاتِه، جاهلٌ في أخلاقِه وتصرّفاتِه، جاهلٌ في نظرتِه لمن حولَه ومُعاملاتِه!
إنّ للجهلِ مظاهرَ وصُوَرًا، فأعظمُ الجهلِ: الجهلُ بحقّ اللهِ تعالى، وبما يجبُ مِن طاعتِه وتوحيدِه وتعظيمِ أمرِه، فالجاهلُ يتهاونُ في حقّ الله، ولا يُدركُ عاقبةَ أفعالِه، تراه مُجترِئًا على ما فيه هلاكُه، كما يجترئُ الطفلُ على الـمَخاطِر كالكهرباءِ أو السُّمومِ وهو لا يدري عاقبتَها، وكما يتطاولُ السّفيهُ الوضيعُ على الشُّرَفاءِ وهُو لا يدري قَدْرَهُم.
إنّ الإعراضَ عن اللهِ إلى غيرِه إغراقٌ في الجهل، قال تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ، ولما طلبَ قومُ موسى مِنْهُ أن يجعلَ لهم آلهةً، قال لهم: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، فالشركُ باللهِ مَبْنِيٌّ على الجهلِ بتفرّدِه سبحانه بالكمال.
والانطلاقُ في الشهواتِ البهيميّةِ، بِدَعْوَى الحرّيّة إغراقٌ في الجهل، وإمعانٌ في قلّةِ العقل، أين العقلُ في الاستِعَاضَةِ عن الطّهارةِ بالنجاسات، وعن النّزاهةِ بالقاذوراتِ؟ ولذلك قالَ لوطٌ عليهِ السلامُ لِقَومِه: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ.
ولـمّا دُعِي يوسفُ عليهِ السلامُ إلى الفاحشةِ استغاثَ بربِّه مِن الجهلِ فقال: وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ.
ومِن الجهلِ أيضًا تعظيمُ الدُّنيا التي حقَّرَها الله، والغفلةُ عن الآخرةِ التي عظَّمَهَا الله، وانقلابُ الموازينِ لدى الناس، ولذلك كانَ مِن أمرِ الجاهليّةِ الفخرُ بالأحسابِ التي لا تُجدِي على أهلِها شيئًا بِغَيرِ التقوى، كما قال رسولُ اللهِ ﷺ: «أربعٌ في أُمّتِي مِن أَمْرِ الجاهليّةِ لا يَتركُونَهنّ، الفخرُ في الأحسَابِ، والطّعنُ في الأنسَابِ، والاستِسقَاءُ بالنّجومِ، والنِّيَاحَة». أعاذَنا اللهُ مِن الجهلِ ومِن أفعالِ الجاهِلين.
بارك اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَنا بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ قَولِي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين مِن كلّ ذنبٍ فاستغفرُوه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِه وصحبِه ومَن والاه، وبعد:
إخوةَ الإسلام:
لقد أخبرَنا الصادقُ المصدوقُ ﷺ عن فُشُوِّ الجهلِ في آخِرِ الزمانِ كما صحّ عنه أنّه قال: «إنّ مِن أشراطِ الساعةِ وأماراتِـها أن يُرفَعَ العلمُ، وأن يَثْبُتَ الجهلُ».
وقال ﷺ: «سَيَأتي على الناسِ سنواتٌ خدّاعاتٌ، يُصَدَّقُ فيها الكاذبُ، ويُكذَّبُ فيها الصّادقُ، ويُؤتمَنُ فيها الخائِنُ، ويُخَوَّنُ فيها الأمينُ، ويَنطِقُ فيها الرُّوَيْبِضَة قيل: وما الرُّوَيْبِضَة؟ قال: الرجلُ التّافهُ يتكلّمُ في أمرِ العامَّة».
وإنّ لِفُشُوِّ الجهلِ أسبابًا، أهمُّها: الإعراضُ عن تعلّمِ الدينِ، فإنّ هذا الدينَ عِلمٌ، والقرآنَ عِلمٌ، أنزلَه اللهُ بِعلمِه، وامْتَنَّ على الإنسانِ بِتعليمِه، وأوّلُ آيةٍ نزلَت منه هي:اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الّذِي خَلَق، وليس عِلمُ القرآنِ هو عِلمَ حروفِه وألفاظِه فَحَسْب، بلِ المقصودُ منه عِلمُ معانِيه ومقاصدِه.
وهذا العلمُ له أهلُه المختصُّونَ به، الّذين همُ العلماءُ ورثةُ الأنبياءِ، وَرِثُوا عنهم العلمَ وتعليمَه، ولا سبيلَ لأخذِه إلّا بالتلقِّي عنهم، والاستفادةِ منهم، فإنّهم أَوْعِيَةُ العلمِ وحَمَلَتُه ونَقَلَتُه، كما قال ﷺ: «إنّ اللهَ لا يَقْبِضُ العلمَ انتِزَاعًا يَنْتَزِعُه مِنَ العِبَادِ، ولَكِن يَقْبِضُ العِلمَ بِقَبْضِ العُلَمَاء، حتّى إذا لم يُبقِ عالمًا اتّخَذَ الناسُ رؤوسًا جُهّالًا فسُئِلُوا، فأفتَوا بِغَيرِ علمٍ فضَلُّوا وأَضَلُّوا».
ولذلك يقولُ أبو الدّرداءِ رضي الله عنه: «ما لي أرى عُلَمَاءَكُم يَذْهَبُون، وجُهَّالَكُم لا يَتَعَلّمُون؟ تَعَلَّمُوا قبلَ أنْ يُرفَعَ العلمُ، فإنّ رَفْعَ العلمِ ذَهَابُ العلماء».
ومِن أسبابِ الإعراضِ عنِ العلمِ شُعُورُ المرءِ بِاستِغْنَائِه عنه، فَرَحًا بما عندَه مِن الظّنُونِ والقَنَاعات، أو فَخْرًا بما عندَه مِن الشّهادات، ولعلّه لا يَفهمُ القرآنَ، ولا يَعرِفُ سُنّةَ النبيِّ ﷺ وهَدْيَه، أو لعلّه لا يُحسِنُ كيف يؤدِّي العبادةَ، ولا يدرِي عن معاملاتِه أهِي حلالٌ أم حرام!
ومِن أسبابِ الجهلِ: عدمُ الشُّعُورِ به؛ لأنّ المريضَ إذا لم يَشْعُرْ بمرضِه لم يَسْعَ في علاجِه، والّذي يُدرِكُ المرضَ ويُشَخِّصُه هم أهلُ العلم.
ومِن أسبابِ الجهلِ: الاستِكبارُ عن طلبِ العلمِ وتَلَقِّيه، أو الحياءُ مِن ذلك، فمِن الناسِ مَن يَتَحَاشَى السّؤالّ تَعَالِيًا أو خَجَلًا مِن أن يُظنّ أنه جاهِل. وقد قِيل: «لا يَنَال العلمَ مُسْتَحْيٍ ولا مُسْتَكْبِر».
ومِن أسبابِ الجهلِ: سُفُولُ الهِمّةِ والكَسَلُ، فإنّ العلمَ مِن مَعَالي الأمورِ وكِرامِها، ويُحتاجُ في طلبِه إلى الهِمّةِ والإقبالِ، فمَن كانَت هِمّتُه سَافِلةً لم يَصْبِرْ على قراءةِ كتابٍ، ولم يُواظِب على مُتابعةِ دَرْس.
ومِن أسبابِ الجهلِ أيضًا: الانشِغَالُ بِالدُّنيا، والإقبالُ على التّفاهات وعلى أهلِها، الّذين هُم رؤوسٌ في الجهالةِ والسّفاهةِ، ولذلك وَصَفَ اللهُ أهلَ الإيمانِ بأنّهم يَجتنبُونَ هؤلاء، فقال: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ.
عبادَ الله: صلّوا وسلّموا على مَن أُمِرتُم بالصلاةِ عليه: اللهم صلّ وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم بِعِلمك الغيبَ وقُدرتِك على الخلقِ أَحْيِنَا ما علِمت الحياةَ خيرًا لنا، وتوفّنا إذا علِمت الوفاة خيرًا لنا، ونسألُك خشيتَك في الغيب والشهادة، وكلمةَ الحق في الغضب والرِّضا، والقصدَ في الفقر والغِنى، ونسألك نعيمًا لا يَنفد، وقُرّةَ عينٍ لا تنقطع، ونسألُك الرّضا بعد القضاء، ونسألك بردَ العيش بعد الموت، ونسألك لذّةَ النظرِ إلى وجهِك، والشوقَ إلى لقائِك، في غير ضرّاءَ مُضِرّة ولا فتنة مُضِلّة، اللهمّ زيِّنَّا بِزينة الإيمان. اللهمّ وفّق وليّ أمرنا لما تُحبّ وترضى، وخُذ بناصيته للبرّ والتقوى. ربنا آتِنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنَا عذابَ النار.
عبادَ الله: اذكروا الله ذكرًا كثيرًا، وسبّحوه بكرةً وأصيلًا، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله رب العالمين.