خطبة (الإيمان بالقدر)

خطبة (الإيمان بالقدر)

عنوان الخطبة: الإيمان بالقدر

عناصر الخطبة:
١- حقيقة الإيمان بالقدر ومراتبه.
٢- الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان.
٣- الله سبحانه وتعالى حكيم في كلّ ما يُقدّره.
٤- للعبد مشيئة في أفعاله.
٥- الهداية والإضلال بيد الله تعالى.

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله وراقِبُوه، وأطيعوه ولا تَعصُوه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ‌حَقَّ ‌تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.

مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ:

ما مِن شيءٍ يقعُ في هذا الكونِ، ولا حركةٍ ولا حادثةٍ، ولا نعمةٍ يَنعَمُ بها عبدٌ ولا مصيبةٍ تُصيب آخر، ولا خيرٍ يقع ولا شرّ؛ إلا بتقدير الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، وقال سبحانه: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا.

القدر - يا عباد الله! - حقيقةٌ عظيمة، دلّت عليها دلائل القرآن والسنة والإجماع والعقل الصريح، فما هو القدر؟ وما مكانته في عقيدتنا؟

إنّ حقيقة الإيمان بالقَدَر: أن يُقِرَّ العبدُ مِن غيرِ شَكٍّ، بِأنَّ كلَّ ما يقعُ في هذا الكونِ إنّما يكونُ بتقديرِ اللهِ تعالى، وتقديرُه يتضمّنُ أربعَ مراتب: عِلمَ اللهِ بما سيوجِدُه، ثم كتابتَه لذلك، ثم مشيئتَه له، ثم خلقَه إيّاه، ولا يخرجُ شيءٌ مِن حوادثِ العالَمِ عن هذه المراتبِ الأربعِ أبدًا.

فأوّلُ هذه المراتِب: العِلمُ، وهو أنّ اللهَ تعالى عَلِم كلَّ ما سيكونُ على التفصيل، وعلمُه جلَّ وعلا لا بدايةَ له، فإنّ اللهَ لَـمْ يَزَلْ بكُلّ شيءٍ عليمًا.

فقد علِمَ الله من سيُولَدُ ومَن سَيَمُوت، ومكانَ ذلكَ وزمانَه، وعلِمَ ما سيُصابُ به كلُّ مخلوقٍ من خيرٍ أو شرّ، ومن سيَهتَدي من الـخَلقِ ومن سَيَضِلّ، وجميعَ ما سيكونُ في هذا العالَمِ من الذَّرَّةِ حتى المجرَّة.

ثمّ مرتبةُ الكتابة، وهي أنّ اللهَ قبلَ أن يخلُقَ السماواتِ والأرضَ بِخَمسينَ ألفَ سَنَة، كتَبَ مَقَادِيرَ كلِّ شيءٍ في اللّوحِ المحفُوظ. كما روى مسلمٌ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاص t قال: سمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقول: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخلائقِ قبلَ أنْ يخلُقَ السماواتِ والأرضَ بِخَمسينَ ألفَ سَنَة، قال: وعرشُه على الماء» رواه مسلم، وصحّ عند أحمدَ وأبي داودَ والترمذيِّ عن عُبادةَ بنِ الصامتِ t قال: سمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقول: «إنَّ أوَلَ ما خلقَ اللهُ القَلَمَ، فقال له: اكتُبْ، قال: ربِّ، وماذا أكتُب؟ قال: اكتُب مَقَادِيرَ كُلِّ شيءٍ حتى تقومَ الساعة».

فهاتان المرتبتان: العلمُ والكتابةُ، يقول الله تعالى فيهما: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ.

ثمّ مرتبةُ المشيئة، وهي أنّ اللهَ تعالى شاءَ بِمَشيئتِه النافذةِ إيجادَ الشيءِ في الوقتِ الذي عَلِمَه سبحانه وكَتَبَه.

وكلُّ ما يقعُ فهو بِمَشيئةِ الله، سواءً كانَ خيرًا أو شرًّا، فلا يكونُ في الكونِ إلا ما شاءه الله، سواءٌ أكانَ مِن أفعالِ اللهِ، كما قالَ تعالى: وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ، أم كانَ مِن أفعالِ المخلوقين، كما قالَ سبحانه: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ.

ثمّ مرتبةُ الخلق، وهو أنّ اللهَ يخلقُ الأشياءَ على وَفق ما يشَاء، كما قالَ تعالى: يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وخَلْقُ اللهِ تعالى يشملُ كلَّ موجودٍ سِوَاه، كما قالَ تعالى: اللهُ خَالقُ كُلِّ شَيء، ومِن ذلك أفعالُ العباد، فهو سبحانه خالقُها.

عبادَ الله:

إنّ هذه العقيدةَ هي أحدُ أركانِ الإيمانِ الستّة، التي لا يكونُ العبدُ مؤمنًا إلّا إذا جَمَعَهَا، كما في حديثِ جبريلَ عليه السلام الذي روَاهُ مسلمٌ في صحيحِه أنّه سألَ النبيَّ ﷺ فقال: أخبِرني عن الإيمان؟ فقال ﷺ: «أنْ تُؤمِنَ باللهِ، وملائكتِه، وكُتُبِه، ورُسُلِه، واليومِ الآخِر، وتؤمنَ بالقدَرِ خيرِه وشرِّه» قال: صدقت.

وروى الترمذيُّ عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: «لا يُؤمِنُ عبدٌ حتى يُؤمِنَ بِالقَدَرِ خيرِه وشرِّه، وحتى يعلمَ أنّ ما أصابَه لَـمْ يَكُنْ لِيُخطِئَه، وأنَّ ما أخطأَه لَـمْ يَكُنْ لِيُصِيبَه».

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعَنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسَلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ:

إنّ ما يُقَدِّرُه اللهُ تعالى لا يُمكنُ أن يكونَ عبَثًا أو ظُلمًا، فإنّ اللهَ تعالى حكيمٌ فيما يُقَدِّر، عَدْلٌ فيما يَقضِي، فكلُّ مَقدُورٍ كَتَبَه اللهُ تعالى خيرًا كانَ أو شرًّا فإنّه واقعٌ على وَفقِ حكمتِه البالغة، التي يَعْجِزُ عنِ الإحاطةِ بها خلقُه.

ومهما رأى العبدُ من أمورٍ يَعْجِزُ عن إدراكِ غايَتِها وعلّتِها، فعليه أنْ يعلمَ أنَّ اللهَ تعالى يعلمُ مآلَـها، وأنّ له فيها حكمةً يَستحقُّ الحمدَ عليها، فهو المحمودُ على كلِّ حال، المعظَّمُ الممجَّدُ، المسبَّحُ الموحَّدُ، لا إله إلا هو.

وليس مِن معنى الإيمانِ بِالقدَرِ أن يظنَّ العبدُ نفسَه مُجبَرًا على أفعالِه، بلِ اللهُ تعالى قد أعطى العبادَ مشيئةً واختيارًا، وجَعَلَ أفعالَـهم ناشئةً عن اختياراتِـهم، لكنّ مشيئتَهم لا تخرجُ عن مشيئةِ اللهِ تعالى، كما قال سبحانه: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا.

فاللهُ تعالى يَهدِي مَن يشاءُ مِن عبادِه مِنّةً وتفضُّلًا، ولا حقَّ لِأحدٍ مِن الخلقِ على الربِّ الجليلِ سبحانه.

وهو سبحانه يُضِلُّ مَن شاء حكمةً مِنْهُ وعَدْلًا، ولا يَظلِمُ ربُّك أحدًا.

والقَدَرُ يا عبدَ الله! سِرُّ اللهِ في خلقِه؛ فما بيَّنَه سبحانَه لنا مِنْه قَبِلْنَاه وآمنّا بِه، وما غابَ عنّا مِن حِكَمِه وغاياتِه سلَّمْنا به، وآمنّا بِكمالِ حكمةِ اللهِ وعدلِه وإنْ جَهِلْنَا حقيقتَه، لأنّه لا يجوزُ للعبدِ بعقلِه القاصرِ مُنَازعةُ اللهِ العليمِ الحكيمِ في أفعالِه وأحكامِه، فإنّه سبحانه كما أخبرَ عن نفسِه: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ.

فالمؤمنُ بالقَدرِ مسلِّمٌ للهِ، مطمئنٌّ إلى تدبيرِه، يتوكّلُ عليه في كلِّ شأنِه، ويعتمِدُ عليه في تحصيلِ الـخَيرِ كُلِّه، ولا يفتُـرُ عن الأخذِ بالأسبابِ المشروعة، لِعلمِه أنَّ سُنَّةَ اللهِ الماضيةَ تقديرُ الأمورِ بأسبابِها، فمَن قدّر اللهُ له الهدايةَ يَسَّرهُ لأسبابِها، ومن قدّر له العافيةَ يسَّره لأسبابِها، ومن قدّر له الرِّزق يسَّره لأسبابِه، وهكذا.

فاللهمّ امْلأْ قلوبَنا بك إيمانًا، ويقينًا، ورُسوخًا، ولا تُزِغْ قلوبَنا بعدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وهبْ لنا مِن لدُنْك رحمةً إنّك أنت الوهّاب.

عبادَ الله: صلّوا وسلّموا على مَن أُمِرتم بالصلاةِ عليه: اللهم صلّ وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم بِعِلمك الغيبَ وقُدرتِك على الخلقِ أَحْيِنَا ما علِمت الحياةَ خيرًا لنا، وتوفّنا إذا علِمت الوفاة خيرا لنا، ونسألك خشيتَك في الغيب والشهادة، وكلمةَ الحق في الغضب والرِّضا، والقصدَ في الفقر والغِنى، ونسألك نعيما لا ينفد، وقُرّةَ عينٍ لا تنقطع، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك بردَ العيش بعد الموت، ونسألك لذّةَ النظرِ إلى وجهِك، والشوقَ إلى لقائِك، في غير ضرّاءَ مُضِرّة ولا فتنةٍ مُضِلّة، الله زيِّنَّا بِزينةِ الإيمان. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

عباد الله: اذكروا الله ذكرا كثيرا، وسبّحوه بكرة وأصيلا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

شارك المحتوى: