من الموادّ الشيقة التي يدرسها طالب الهندسة، مادة (اختيار الموادّ / Materials Selection) يتعلّم فيها الطلبة خواصَّ الموادّ المختلفة: الحديد والألمونيوم، والخشب والبلاستيك بأنواعه المختلفة، وغيرها من موادّ تستعمل في التصنيع، ويستفيدون منها في وضع المادّة المناسبة في مكانها المناسب من الآلة عند صناعتها، بحسب الحاجة.
لو أخذنا صناعة السيارة على سبيل المثال، نرى أن الحديد الصلب من أهم مكوّنات المحرّك، لأنّه من أفضل المعادن في القوة والصلادَة وتحمّل الحرارة، لكنّ مقابض السيارة تصنع من البلاستيك، لأنك لو حاولت فتح الباب في يوم حارّ بمقبض من حديد، فستصيبك لسعةٌ تذكّرك نارَ الآخرة!.
أما الألمونيوم فمهمّ في صناعةِ المبرد (الرديتر)، لأنه لا يصدأ كالحديد، مع قدرته العالية على توصيل الحرارة، وهو ما تحتاجه تمامًا لتبريد ماء المحرّك بأسرع ما يمكن.
لكن صناعة مقاعد السيارة لا ينبغي أن نفكر فيها بالمعادن أو البلاستيك، بل نملؤها بالإسفنج المقوّى الملبّس بالقماش السميك أو الجلد، كلّ بثمنه وفخامته، بحسب طلب المستخدم.
في عملية الاختيار هذه، يعنينا بالدرجة الأولى وضع المادة المناسبة للغرض المناسب، ولا ينبغي أبدًا التفكير في المساواة بين الموادّ، لأنها ضدّ المنطق هنا، فالعقل والتجارب تتطلب الاختلاف والتنويع بحسب الحاجة، ولو أن أحدًا فكر يومًا في عكس ذلك، فوضع الحديد الصلب للمقاعد، والإسفنج أو البلاستيك في أجزاء المحرّك، لوضع الناس عمله تحفةً فنية على بوابة مستشفى المجانين!.
انتقاء الموادّ بحسب الحاجة أمرٌ في غاية الحكمة، وأنت تجد هذا في جِسمك وخلقتك، فشعرك جزءٌ ميّت لا حياةً فيه، ولذلك لا تتضرر بقصّه متى احتجت إلى ذلك، ولكنّه يتغذّى على بصيلاته من داخل جلدك، وكذلك أظفارك، فبإمكانك حكّ الدهان العالق بثوبك مثلًا لإزالته، دون أن تشعر بألمٍ حتى لو انكسر شيءٌ من ظفرك أو تآكل، كل هذا بسبب مادة الكيراتين التي خُلق منها الشعر والظفر، والتي هي أنسب ما تكون في موضعها.
إذا كنت تمسك جوالك بيدك الآن، فكفّك هذه تحتوي عظمًا في داخلها، وهو جزءٌ صلبٌ غير مرن، لكنه مكسوّ بلحمٍ وجلدٍ مرنٍ غير صلب، وكلا الأمرين مهمٌّ في أداء دور الكفّ، لأن حفاظ الكفّ على شكلها وقوامها أمرٌ ضروريّ يحتاج العظام، وحركتها تمدّدًا وتقلصًا وليونتها حول ما تمسك به ضروريٌّ أيضًا يحتاج اللحم والجلد.
خلقُ الله فيه تفاضلٌ وتفاوت، لأنّ كلّ شيءٍ يؤدّي دوره الصحيح في مكانه.
وهكذا نَرى الأمر ظاهرًا في تشريعه ودينه، فهو يفاضِل في التشريعات والأحكام بحسب الأحوال، فيوجب ويحرّم ويبيح، بحسب المقام الذي توجبه حكمته.
الأسرة -مثلًا- تحتاجُ إلى ركنٍ تغلب صرامته ليونته، يحفظُ قِوامها ويتحمل مشاقّها ومسؤولياتها العِظام، ويحتاج ركنًا تغلب ليونته صرامته، يلتفّ على الصغار حانيًا عليهم، ويترفّق بتكوينهم اللطيف ويظلّ قريبًا إليهم.
كلا الركنين مهم، فلا بدّ منهما معًا، لتقوم الأسرة بدورها، ويتمّ لها ما وجدت لأجله، فصلابة اللّيّن، أو ليونة الصّلب، اختلالٌ في الميزان، وإفسادٌ للمقصود.
ومن هنا شرع الله لكلٍّ من الركنين شرائع تخصّه، وأجرى عمله فيما يناسبه، تشريعًا من عليم خبير، وربِّ حكيم، فليس من العقل ولا من الصلاح أن تسوّي اللحمَ بالعظم، أو تعطي أحدهما خصائص الآخر، فمتى ما فعلت ذلك فأنت تعبث بشيءٍ لا تفهمه، حتى لو زعمتَ الإصلاح والمساواة!.
فأعطِ القوس باريها، وسلّم المملوك لمالكه، ودع الخلق للخالق، فلست أنت الذي خلقتَ لتُدبّر، ولست الذي تحيط بالمخلوق علمًا لتشرّع وتقدّر، فاتّبع ما شرعه العليم الحكيم، وسبّحه حامدًا له على حكمه القويم.